استيعاب سيئ للإسلاميين
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
عبد الإله بلقزيز
ليس من دليل على أن موجة صعود الحركات الاسلامية في الوطن العربي انحسرت في السنوات الأخيرة، لكن أدلة أخرى عديدة على تراجعها النسبي في النفوذ والشعبية تفرض معطياتها على كل متابع للحياة السياسية. من النافل القول انه ليس لدينا من ميزان لعيار وزين ذينك النفوذ والشعبية سوى الانتخابات؛ وهذه إما محدودة في بعض البلدان وغير عامة، وإما متلاعَب بنتائجها حيث تجري. وفي الحالين، لا سبيل الى كفاية حالتها لبناء استنتاج صحيح أو قريب من الواقع في ضوء نتائجها. ولقد يوازي هذا المعيار في القيمة الاجرائية مؤشر المكانة التمثيلية للحركات الاسلامية في المؤسسات الشعبية والمدنية كالنقابات العمالية والمنظمات المهنية والاتحادات والروابط والجمعيات الحقوقية والنسائية والشبابية...الخ. وهذه ينطبق على معياريتها ما ينطبق على معيارية الانتخابات؛ إذ ليس في البلاد العربية كافة نقابات حرة وجمعيات أهلية ومدنية مستقلة ليُبْنى على وقائع الحَرَاك فيها ما يُسْتدل به على قوة تلك الحركات.
وعلى ذلك، فحين نزعم أن قدراً من التراجع في نفوذ هذه الحركات وشعبيتها تفرض وقائعه نفسها على الملاحظة لا نقيم الملاحظة هذه على معطيات الاقتراع ولا على محصّلة التمثيل في المنظمات الشعبية، وانما نقيمها على مبدأ المقارنة: مقارنة الحركات الاسلامية بغيرها من الحركات الاجتماعية والسياسية المشاركة في الحياة العامة. ولسنا نقصد بذلك مقارنتها بغيرها من الحركات السياسية العلمانية أو غير الاسلامية، فهذه عموماً أضعف منها بكثير، والقويّ منها انما قوي بسلطة يحكمها أو تحميه، ولكن نقصد به مقارنة بغيرها من الحركات التي تنافسها في استثمار الرأسمال الديني في العمل السياسي، وأخصها بالذكر اليوم الحركات الصوفية التي انتعشت قوىً ونفوذاً في الأعم الأغلب من البلدان العربية في هذا العقد الأول من القرن الحالي.
كانت الحركات السياسية المدعوة باسم حركات "الاسلام السياسي" قد أنجزت دور كسير احتكار الدولة والسلطة للرأسمال الديني ومجاله ومؤسساته، ونازعتها فيه منتزعة حصتها من المؤسسات الدينية التابعة للدولة. ولقد سددت بذلك ضربة موجعة للسياسات الرسمية المستغلة للدين.
غير ان تطورين حصلا في تاريخ هذه الحركات افقداها صورتها التي أرادتها عن نفسها كحركات ناطقة باسم الاسلام أو أشد تمسكاً بمبادئه من المؤسسات الدينية التقليدية:
أولهما خروج حركات العنف "الجهادية" من أحشاء بعضها ومن هوامش بعضها الآخر، وإنكارها عليها الصفة الدينية التمثيلية، بل والذهاب أحياناً الى تكفيرها أو اتهامها بالتخاذل وتحريف تعاليم الدين، وثانيهما نجاح بعض أنظمة الحكم العربية في استيعاب كثير من تلك الحركات في النظام السياسي القائم بعد وجبات من العقاب الأمني المبرح وتبهيت صورتها الدينية الطهرانية. وقد تضافر التطوران في تقديم صورة جديدة عن هذه الحركات بما هي حركات سياسية في المقام الأول لا قضية لها سوى المشاركة في كعكعة السلطة.
على ان السلطات القائمة في البلدان العربية والإسلامية إذ نجحت في استغلال نشاطات جماعات العنف للتضييق على الحركات الإسلامية المعتدلة، بدعوى مسؤولية خطابها الديني التعبوي في تجييش مشاعر العنف، خطت خطوة جديدة نحو مواجهة هذه الحركات من داخل نطاقها الاجتماعي الثقافي وبأدوات الدين نفسه وتعاليمه ومفرداته، ففتحت خط العلاقة بالمجتمعات الدينية الصوفية المغلقة، وأوسعت أمامها أبواب العمل وساحاته ومؤسساته، ورفعت القيود المضروبة في ما مضى على مشايخ الطرق ومريديها وطقوسها الاحتفالية، فبات في وسع هذه بجمهورها العريض أن تتمتع بما لم يتمتع به غيرها من الحركات الاجتماعية والسياسية من هوية النشاط والتوسع. تتفاوت درجات تسخير الجماعات والفرق الصوفية في المسعى إلى امتصاص نفوذ الحركات السياسية الإسلامية، لكن هذا التسخير بات، اليوم، في حكم السياسات الرسمية المدعومة من المراكز الخارجية والموصى بها من "خبرائها" في شؤون "الأصولية الإسلامية".
من النافل القول ان هذا الخيار الاستيعابي الجديد، المعول على دور ديني وتربوي مختلف للحركات الصوفية يشد المؤمنين إلى عالمها الروحي ويصرفهم عن العالم المادي، إنما يتجاهل حقيقتين تاريخيتين ويجذف ضدهما على نحو بالغ الوضوح: أولاهما ان التقليد الذي استقرت عليه سياسات الدولة، في العالمين العربي والإسلامي، ومنذ قرنين، هو التحالف بين السلطة المركزية وجماعات العلماء من ممثلي الإسلام السني العالم في مواجهة الحركات الطرقية والبدع. ولم تكن أسباب التحالف فكرية بحسب (=فرض مرجعية عقيدة السلف في مواجهة البدعة)، وإنما كانت سياسية أيضاً، وذلك بمعنيين: بمعنى لجم الاندفاعة السياسية لبعض الطرق التي شكلت دولة داخل الدولة في فترات من التاريخ، وردع تحالفات بعضها مع المستعمر، ومن النافل القول ان الحركات الوطنية ورثت هذا التقليد ودرجت عليه. وثانيهما ان ما يبدو على الحركات الصوفية من عناية "حصرية" بالجانب الروحي ليس قاعدة ثابتة في سلوكها، وانها في لحظة من تطورها تتحول الى مؤسسة سياسية أو إلى رحم تنجب مؤسسات سياسية. وليس القصد هنا الإشارة فقط إلى دورها السياسي والعسكري الذي قامت به (بعضها على الأقل) في جهاد العدو وحماية الثغور، وإنما الإشارة إلى ان كبار مؤسسي حركات "الإسلام السياسي" خرجوا من أحشاء التصوف: من حسن البنا في مصر إلى عبدالسلام ياسين في المغرب.
الخشية، إذن، من أن تجد هذه السياسات نفسها مضطرة في المستقبل إلى استيعاب هذه الحركات حين يفيض دورها عن الحدود المرسومة، وأن يكون ثمن ذلك الاستيعاب كبيراً على الاستقرار الاجتماعي مثلما كان في السابق مع حركات أخرى سخّرت للأغراض عينها مع اختلاف في عناوين ما سخرت من أجله!