لملمة الفتوى في "الغثاء الأحوى"
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
سعود البلوي
يؤكد العرفج على أن هاجس التدين هو الذي يبعث الفتوى ويزرع الأسئلة وينبت الاستفهامات، وهو هاجس طويل أوله في صدور الناس وآخره لا نهاية له، ولذلك يشير الكاتب إلى أمر خطير هو محاولة المحاربة بالفتوى
يحاول الكاتب أحمد العرفج لملمة الفتوى من خلال كتابه الموسوم بـ"الغثاء الأحوى في لمِّ طرائف وغرائب الفتوى" الصادر أخيراً عن المركز الثقافي العربي في بيروت، وأعتقد أنه قام بخطوة مهمة في تتبعه للفتوى عبر التاريخ السعودي، حيث يشير الكاتب إلى أن اهتمامه بالفتوى يعود إلى سنوات طويلة ماضية، وقد اعتمد العرفج على المصادر الإسلامية في دعم كتابه بآراء المؤلفين القدماء، حيث أشار إلى صورة المفتي في التراث الإسلامي، إذ يعتبر ابن القيم المفتي موقِّعاً بالنيابة عن رب العالمين، بينما يعتبره الشاطبي "قائماً في الأمة مقام النبي".
وفي موضع آخر يشير المؤلف إلى أن الفقهاء القدماء لم يهملوا أخذ الفتوى عن الفاسق وصاحب المعصية، حيث ينقل النووي عن الخطيب البغدادي إجماع المسلمين على أن الفاسق يفتي نفسه لا غيره، بينما يشير الصميري إلى صحة "فتوى أهل الأهواء والخوارج ومن لا يكفر ببدعته ولا بفسقه". ولم يهمل الكاتب الإشارة إلى تطرق التراث لفتوى الإنسان نفسه، وتغير الفتوى بتغير الأحوال والمصالح. وفي موضع آخر يتساءل: هل الفتوى حكم الله أم حكم الشيخ؟ ويجيب عن سؤاله بحسب ما ورد في أقوال القدماء وخلص إلى أن النص هو الحكم في الموضوع، أي ما ورد فيها نص من القرآن أو السنة تكون الفتوى حكم الله، وأما الفتوى التي لا قاطع فيها من النصوص فلا حكم محددا لله فيها، وبالتالي هي حكم المجتهد... ولهذا يشير العرفج في موضع لآراء بعض الفقهاء في ضرورة الرقابة على المفتين، وفي موضع آخر يربط ذلك بضرورة تورع المفتين عن التضليل والتكفير. وعن خوض بعض المفتين في "التلفيق" يؤكد الكاتب أن ذلك هدفه قمع الناس من خلال سلطة الفقيه أو حكومة المذهب أو تقييد العامي بقيود الفهم الواحد للنص. ويشير إلى المعايير التي يفترض توفرها في المفتي ومنها أهمية تعلم العلوم الرياضية وما يحتاج إليه الناس في علوم معاصرة، ويشير إلى قصة طريفة وهي أن وافداً قُبض عليه وبحوزته مجموعة من الأفلام المخلة بالآداب ولما عُرض على القاضي أصدر عليه حكماً قاسياً، فقال أحد الحاضرين: يا شيخ هذه الأفلام داخل سي دي! ورغم أن الشيخ لم يكن يعرف ما تعنيه كلمة سي دي إلا أنه قال: ومعها أيضاً سي دي؟! فقرر مضاعفة العقوبة!
وتعتبر فوضوية الفتوى أمراً مقلقاً إذ يشير الكاتب أحمد العرفج في كتابه إلى رأي وزير الأوقاف المصري محمود حمدي زقزوق الذي قال إن "فوضى الفتاوى وعدم انسجامها مع العقل والفطرة الإنسانية أكثر خطراً"، ويربط الكاتب فوضى الفتاوى بهاجس التدين لدى مجتمعنا السعودي ويشير إلى رواية طريفة تقول إن أحد الإخوة المصريين زار السعودية فقرأ لوحة إحدى شركات الدواجن، فقال: سبحان الله كل شيء له فقيه حتى الدواجن! ويؤكد العرفج مرة أخرى على أن هاجس التدين هو الذي يبعث الفتوى ويزرع الأسئلة وينبت الاستفهامات، وهو هاجس طويل أوله في صدور الناس وآخره لا نهاية له، ولذلك يشير الكاتب إلى أمر خطير هو محاولة المحاربة بالفتوى، وهو ما سمّاه "بعض حيل المستفتين" وضرب مثلاً بـ"صاحب سؤال الليبرالية" الذي وزع السؤال نفسه على عدة مشايخ فبعضهم عرف الفخ فلم يجب وبعضهم أجاب إجابة لا ترضي السائل الذي ظفر بإجابة وحيدة من قبل الشيخ صالح الفوزان حققت له ما يريد، ولكن ندم الشيخ وعدل ما يمكن تعديله لاحقاً.
وقد خصص المؤلف أجزاء من كتابه لفتاوى (كبار وصغار) العلماء، كالفتوى الواردة في كتاب فتاوى علماء البلد الحرام- والمتعلقة بتسريحة وصبغة الشعر للمرأة، حيث اعتبرت تشبهاً بأعداء الله الإفرنج، وفتاوى أخرى تتعلق بالحرية وتعتبرها فقط تلك التي تضاد الرق، وفي الكتاب ذاته أشارت إحدى الفتاوى إلى أنه لا يجوز للمسلم القيام إعظاماً لأي علم وطني أو سلام وطني باعتبار ذلك بدعة منكرة! . كما عرج الكاتب على تحريم برنامج "من سيربح المليون" من قبل مفتي الديار المصرية سابقاً نصر فريد واصل، وتأييد من قبل الشيخين عبدالله بن منيع وصالح الفوزان، بينما نأى السيد جورج قرداحي بنفسه عن الرد على الفتوى باعتبار أنه غير مؤهل للرد من جهة وباعتباره شخصا مسيحيا من جهة أخرى. ويتوالى عرض الفتاوى التي يعتبرها المؤلف من الغرائب كما يدل عليه عنوان كتابه، ومنها جواز اللعب مع شخص يرتدي سروالاً قصيراً، ومصافحة المرأة، وتحريم خروج المرأة إلى السوق، وعباءة الكتف، ويشير إلى أن الباحث والمحقق والمترجم السوري بسام عمقية سأله عن ذلك بوصفه خبيراً في شأن الفتوى، ولرغبة زوجته الأميركية بلبس عباءة كتف، ويقول العرفج إنه لم يجد شيئاً في كتب التراث فلجأ إلى كتب الفتاوى المعاصرة ليجد بها عشرات الفتاوى عن "إشكالية" وضع العباءة على الكتفين، وفي موضع آخر يورد العرفج فتاوى أخرى عن حكم لبس بنطال الجينز للنساء، الذي لا يجوز ولو كان أمام نساء.
ويتناول المؤلف فتاوى كثيرة جداً عن أحكام غريبة مثل شرب المشروبات الغازية، وسلام الإشارة بالإصبع، وتعلم اللغة الإنجليزية، ولبس النقاب والساعة، والقومية، والعلمانية الجديدة، واللحوم المسمومة، ووظيفة بمرتبة محرم ولبس الدبلة، والفيديو والشيشة وإهداء الزهور والكعب العالي... وقد علق الكاتب على رأي الباحثة نشوى الديب في أن بعض الفتاوى وقود التطرف، وفي ذلك يقول عن الفتوى إنها "ميدان يعتمد فيه الجواب على طريقة طرح السؤال".
من خلال الكتاب يلاحظ القارئ أن هناك هوساً اجتماعياً بالفتوى أخرجها من مرتبة الأهمية إلى إطار الغرائبية، وهي بذلك تحتاج إلى مراجعة إطلاق الفتوى وأن يكون المفتي على علم ودراية بالواقع من حوله كيلا تنتقل الفتوى من دورها الإرشادي إلى الدور الوصائي، فالوصاية لن تكون مؤثرة ولو جاءت بصيغة فتوى، فنحن اليوم في عالم يجب أن نكون جزءاً منه لا أن نكون خارجه وبذلك كأننا وضعنا سياجاً بيننا وبين العالم.