جريدة الجرائد

زمن المقالة السعودية

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

عبد الرحمن الحبيب

إنها ثورة المقالة في السعودية، فمنذ عدة سنوات تكاد تكون هي العمود الفقري للحراك الفكري والاجتماعي الذي نشهده. وهي الآن تحظى بالاهتمام الأكبر بين كافة أجناس الكتابة الصحفية من تحقيق وتقرير وحوار وتغطية صحفية..

لذا، لم يكن غريباً أن تعقد جامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن عبر كرسي صحيفة الجزيرة ملتقى لفن المقالة على مدى ثلاثة أيام في الأسبوع الماضي. وهو أول ملتقى من نوعه تنبَّه لما للمقالة من تأثير جديد وخطير في الساحة، فيما كانت المقالة بالتسعينات خابية في الزوايا ولا تتوهج إلا نادراً. أما الآن، فيمكن ملاحظة أن أكثر أجناس الكتابة الصحفية يصل بريدنا الإلكتروني من الإعلام السعودي، هو: المقالة الصحفية.

وتحتدم حمى المعارك الفكرية والقضايا الاجتماعية وما يصاحبهما من إثارة إعلامية في ساحة المقالة الصحفية ولا ينافسها في حمى الوطيس إلا المواجهات الحوارية في الفضائيات. ولقد تحول بعض كتّاب المقالات إلى نجوم، بعضهم لا تستمر نجوميته سنتين أو ثلاثاً إلا وتخفت حسب "شباك التذاكر" ومدى مهارة النجم في إتقان العزف على وتر العواطف ليحوز على الرضا الشعبي، فالأكثر تأثيراً بالعواطف هو الحائز على البطولة والرضا الجماهيري.. أو يتراجع الكاتب عن بطولته الشعبية ليحوز على رضا آخر يسيل له اللعاب ليرتفع رصيد آخر. بل وصلت الحالة إلى أننا أصبحنا نتناقل أخبار انتقال الكاتب الفلاني إلى الجريدة الفلانية، بمشابه ما نتناقله عن لاعبي كرة القدم، ونسمع عن رواتب شهرية تتجاوز رواتب وكلاء الوزارات. ولا غضاضة في ذلك، بل تلك ظاهرة إيجابية لدعم الحراك الثقافي والاجتماعي.

لكن هل يمكن أن تستمر هذه الظاهرة؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال، من المهم أن نتعرّف على أسبابها، ثم على طريقة عمل تلك الظاهرة. في تقديري أن أهم أسبابها هو ارتفاع سقف حرية التعبير الذي يزداد ارتفاعاً بشكل تدريجي هادئ منذ عقد من الزمن. ولأن الفترة السابقة لذلك لم تشهد احتداماً في النقاشات والحوارات ومُنعت بها قضايا من اللمس فقد تراكمت قضايا عديدة وتضخمت حتى أصيبت بحساسية مفرطة من اللمس، فعندما فُتحت ولُمست أثارت زوابع إعلامية واجتماعية وفقهية وحقوقية. وكانت أفضل وسيلة للتعبير هي المقالة الصحفية.

ومشابه لذلك ومتزامن معه ما نجده في الساحة الأدبية والفنية، حيث تتصدر الرواية كافة الأجناس الأدبية في الساحة السعودية، لأنها الوسيلة الأكثر قرباً من القضايا الاجتماعية والفكرية، بينما الشعر (الذي كان متسيداً) لا يستطيع أن يدخل في عالم الحوارات أو النقاشات ولا في التفاصيل الاجتماعية التي تتناولها الرواية. لذا فقد تراجع الشعر أمام الرواية رغم أننا أمة خطاب شعري.. "الشعر ديوان العرب."

لكن ما هي مواصفات المقالة الصحفية التي تحظى بجماهيرية؟ في تقديري أن أهم المواصفات هي: الشعبوية (خاصة في المقالة الخدمية)، أي اللعب على وتر العواطف الجماهيرية كما أشرت، مثلما يحصل في الإعلان عن وجود فساد أو أخطاء. ويترافق مع ذلك مهارة أدبية وبلاغية رائعة تجد صدى هائلا بين الجماهير الناقمة عاطفياً على تلك الجهة المنقودة، مثل: الصحة، الكهرباء، المياه، البلدية، التجارة، المدارس، الاتصالات.

الصفة الأخرى، النقد العام الفضفاض المبني على معلومات منقولة ومعروفة للجميع، والخالي من المعلومات الجديدة أو المتضمن معلومات غير مؤكّدة ولا موثقة، بل من مصادر، مثل: معلومات عامية، حكي مجالس (قال لي أحدهم)، رسالة قارئ، إشاعة قوية، انطباع شخصي، تجربة فردية، معلومة رسمية ناقصة..

الصفة الثالثة هي التفكير بصوت عال، (خاصة في المقالة الفكرية والاجتماعية) فكثير من المقالات في الصحف السعودية تكتب عفوياً وكأن الكاتب يتحدث في مجلس، حيث يضع آراءه دون إطار منهجي ينظم الأفكار من عرض وتحليل واستنتاج مرتبط موضوعيا بالسياق، وقلما نجد تحديثاً لأدوات التحليل أو لمناقشة آخر النظريات والمستجدات الفكرية.

الصفة الأخيرة هي اعتماد أغلب المقالات الفكرية والموضوعية على المنهج الاستنباطي (Deduction)

دون المنهج الاستقرائي (Induction). والاستناد على المنطق الاستنباطي (العقل الخالص للكاتب) ليس عيباً، بل هو أحد مناهج التحليل الأساسية، إنما الخلل هو أن يكون المنهج السائد، وحتى عندما يخرج عن العقل الخالص فهو يستند على الاستنتاج الواقعي نظرياً وليس تجريبياً، أي ليس من خلال نتائج الدراسات العلمية أو البحوث التجريبية في مجالات العلوم كالاجتماعية والسياسية، وقلما تجد أرقاماً وإحصاءات أو آراء المختصين والخبراء في المجالات التي يتعرضون لها.

لا أزعم أن تلك المواصفات هي الرصد الصحيح، بل هو ما استطعت جاهداً أن أراه، وبتلك المواصفات، فيمكنني الاستنتاج أن تسيُّد المقالة الصحفية في ساحتنا السعودية لن يطول.. وأتوقع أنه بعد سنتين أو ثلاث سيبدأ التراجع التدريجي لها. لماذا؟

أولا: إن حماسة انطلاق الأفكار الجديدة سيتم الاعتياد عليها من المتلقين ولن تصير بذلك الإبهار الذي كانت عليه عندما انطلقت من قمقمها أول مرة، وكذلك الجدل الفكري والاجتماعي الصاخب سيألفه الناس ولن يغدو صادماً لعواطفهم.

ثانيا: أغلب المقالات لا تزال منحصرة في الدور الإيجابي الأولي وهو التوعية والتنوير الإنشائي وما يصاحبهما من نقد عام فضفاض وطروحات لا تجديد فيها ومعلومات قديمة، وجدل فكري بين التيارات في العموميات، ولم يتنقل هذا الخطاب، في أغلب المقالات، إلى الدور الإيجابي الأساسي وهو الكتابة الجادة المنظمة، ومتابعة المستجدات الفكرية والاجتماعية وطرح معلومات جديدة والاستناد على الدراسات والأبحاث وطرح رؤى فكرية واضحة ونقد تفصيلي محدد المعالم..

أخشى أن ما حصل لسيادة ثقافة الكاسيت (من منتصف الثمانينات إلى منتصف التسعينات) التي انطفأت سريعاً سيحصل لسيادة ثقافة المقالة المستعجلة، فثقافتنا الشفهية/السمعية التي أنتجت ثقافة الكاسيت لا تزال تتغلب على ثقافتنا التحريرية/البصرية، وطبيعة الثقافة الشفهية تتعامل مع الأفكار والمعلومات بارتجال، بينما الثقافة الكتابية تعتمد على التنظيم والتعمق.. لذا لم يكن مستغرباً أن تقفز نسبة كتاب المقالات اليومية خلال السنتين الأخيرتين.. وليس مستغرباً في ظل الثقافة الشفوية أن المواجهات الحوارية الشفوية في الفضائيات هي المنافس الوحيد للمقالة..

مهما كان الكاتب مثقفاً ومهما كانت أفكاره ألمعية، وصياغته جذابة، فإنه دون تنظيم يصبح عمله مبعثراً، وفائدته محدودة، ولا يبقى متوهجاً إلا لفترة قصيرة..

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف