لا تسوية ولا أحد يبيع الأمل في لبنان
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
سليمان تقي الدين
لم تفلح المساعي السورية - السعودية في الوصول إلى تسوية حيال الوضع اللبناني المتأزم تجاه دور المحكمة الخاصة بلبنان . الاتصالات التي قام بها الطرفان على الخط الأمريكي والفرنسي لم تلقَ تجاوباً . لم يكن أحد يراهن أصلاً على دور فرنسي حاسم، بل على مسعى لدى أمريكا . في الزيارة الأخيرة للرئيس السوري بشار الأسد إلى فرنسا أعلن عن عدم بلوغ الجهود ما يمكن وصفه بالمبادرة إلى الحل . حديث الرئيس السوري عن أفكار متداولة، وعن استمرار المساعي، وعن أهمية الدور الذي يقوم به الفرقاء اللبنانيون، يؤكد أنه لم تنضج أية صيغة للحل . هنا يظهر أكثر كيف أن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان باتت ورقة في يد ldquo;المجتمع الدوليrdquo; وعلى رأسه أمريكا تستخدمها في سياسات تتعدى لبنان وتطاول الوضع الإقليمي كله .
انعكست هذه الأجواء على الحوار اللبناني والأفكار والمبادرات التي سعت إلى إيجاد حل لملف ldquo;الشهود الزورrdquo; . لم تصل هذه الأفكار إلى إيجاد قواسم مشتركة ولا إلى أي تنازل يقدمه الفريق المراهن على المحكمة ودورها في التوازن الداخلي اللبناني . لقد صار واضحاً أن الضغط في مجلس الوزراء يمكن أن يفجّر الوضع الحكومي ولا يفيد في استيعاب الأزمة، فتأجلت الأمور إلى ما لا نهاية من دون أن يكون في الأفق أي حراك جديد أو موعد جديد لمعالجة هذا الأمر . فلا الداخل قادر على المعالجة ولا الخارج كذلك . الأزمة معلقة ولبنان ينتظر اللحظة التي يعلن فيها القرار الاتهامي ولو أن بعض المساعي الخارجية قد تسهم في جعله جرعة من جرعات عدة . ورغم التشنج الذي قابل به ldquo;حزب اللهrdquo; قرار المحكمة الاتهامي المفترض، والمحكمة كأداة، فهو عاد على أعلى مستوى يراهن على المسعى السوري السعودي في المعالجة .
يقول ldquo;الحزبrdquo; إنه ليس في مأزق بل إن البلد في مأزق . هذه حقيقة . بمعنى أن الجميع في مأزق وأن تداعيات القرار الاتهامي قد تذهب في المواجهة إلى حد نشر الفوضى السياسية والأمنية وربما تصعيد الطروحات السياسية نحو اعادة صياغة جديدة للنظام السياسي . هذا إذا اقتصرت الأمور على النزاع الداخلي ولم تتدخل الدول العربية في اللحظة التي تناسبها لإكمال الحصار على ldquo;الحزبrdquo; في السياسة والأمن . في واقع الأمر لا مصلحة لأي طرف لبناني في الوصول إلى مرحلة الحرب الأهلية . لكن العقل السياسي لا يفكر في لبنان على هذا النحو، بل هو يذهب في الرهان والمغامرة إلى آخر الشوط ويتجاوز أحياناً حافة الهاوية .
في مكان ما يراهن الفريق المؤيد لمسار المحكمة أن تصل الأمور إلى لحظة إصدار القرار الذي يضعف ldquo;حزب اللهrdquo; ويعقد التسوية . لكن العقل الحزبي اللبناني الذي يشبه العقل القبلي في بنيته وسلوكياته لا يقف عند هذه الحدود في التعامل مع التحديات . لبنان اليوم يتقدم بسرعة إلى اختبار المواجهة، بل هو يعد لها المسرح في أكثر من موقع ومنطقة . وفي كل مرة كهذه يخطئ جميع الأطراف الذين يعتقدون بإمكان حسم الأمور في صالحهم بالمعنى الاستراتيجي . ونكاد نعيش في ظروف عام 1975 أو عام 1982 بحيث لا توجد مرجعية عربية قادرة على التدخل المادي المباشر قبل تفاقم الأزمة واندلاع العنف وخطر تغيير المعادلات .
لا يستطيع ldquo;حزب اللهrdquo; بسهولة أن يتعايش مع قرار اتهامي يرتب عليه مسؤوليات معنوية وسياسية وأمنية داخلياً ودولياً . ولا يستطيع الفريق الآخر أن يتعايش مع ldquo;قوة الحزبrdquo; التي باتت تمنعه من ممارسة أي سلطة غير مشروطة . في مكان ما هناك من يعتقد أن تفكيك البلد بات مدخلاً ضرورياً لاعادة جمعه على قاعدة جديدة . كان المسيحيون في الحرب الأهلية يعتقدون ذلك وقد جربوه . أما اليوم فأكثر من طرف يعد العدّة لهذا الخيار، وفي هذا السياق تأتي المهرجانات السياسية التعبوية بخطابها المذهبي لكي تقول إن لسيطرة أي طرف آخر، مهما كانت المادية، حدوداً . بالفعل يتجدد المأزق اللبناني والاستحالة المطلقة لتأمين استقرار في بيئة إقليمية ودولية غير مستقرة . ومن خلال نظام طائفي منطقه أن ينظم ويغذي الصراع على السلطة، لم تعد أمام لبنان أية فرصة للاستقرار السياسي والأمني إلاّ من خلال تسوية إقليمية كبرى غير قائمة وغير مرشحة للقيام في المدى المنظور، أو أن تعاد إدارته بواسطة وصاية إقليمية ودولية تضبط توازنات السلطة وتعيد توزيع الملفات والحصص والأدوار . عملياً هذا هو الدور السوري الاستثنائي الذي يقال إن سوريا طبعاً لن تلعبه من دون تفويض عربي ودولي، ومن دون أن تدفع ثمن ذلك ما يفيض عن حدود مصلحتها وهي لاعب أساسي في لبنان اليوم من دون أية أعباء .
على مستوى الجمهور في لبنان هناك حال من اليأس والقرف الناتج عن عجز متراكم عن التأثير في مجريات الأمور . الجمهور الحزبي هو وحده في حال من التعبئة للحماس والتغيير، ولكنه لا يدرك أن اللعبة تتجاوزه وتتجاوز قيادته . ربما من الطبيعي تجريب أي عمل سياسي أو أي حراك سياسي، لكن لبنان محكوم بخيارات استراتيجية ومصالح دولية تضخ له المال والسلاح ودعم الأطراف في ارتباطاتها الخارجية . ولأن الديمقراطية اللبنانية هجينة مشوهة أمام نمط المصادرة الحزبية في كل الطوائف، فللسياسة نتائج أخرى في مقدمتها العنف الطائفي . وحين ينطلق العنف وتستثار الغرائز يسقط المنطق السياسي وتسقط العقلانية السياسية ويستسلم الجميع لمسارات غير تلك التي خططوا لها من قبل . لا يقنعنا أحد في لبنان أنه يسيطر على اللعبة أو على الشارع . ثمة اهتراء سياسي واجتماعي وانكشاف أمني لا تقوى أية جهة على احتوائه .