جريدة الجرائد

السودان: السياسة والأيديولوجيا

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

عبدالله بن بجاد العتيبي

لم يزل الجدل دائراً وواسعاً حول موضوع الهوية أو الهويات المتعددة التي منها القومي ومنها العرقي ومنها الديني ومنها الإقليمي، ومنها الوطني الحديث، ولدينا اليوم، تعبر الهويات عن نفسها من خلال مستوياتٍ ثلاثةٍ: الدولة والأمة والجماعة، وستظل هذه المستويات في تدافعٍ وتزاحمٍ ما لم يتمّ حسم الولاء الوطني حسماً كاملاً من قبل الدولة، وذلك من خلال جعل الهوية الوطنية الخالصة محل أبحاثٍ متعمّقةٍ، ودراساتٍ علميةٍ واسعةٍ، تهدف جميعاً لتمهيد كافة السبل لترسيخ الهوية الوطنية ورفعها عالياً عن غيرها من الهويات، وذلك عبر نشر الكثير من البرامج والاستراتيجيات الوطنية، حتى نستطيع اللحاق بركب العالم والابتعاد عن أوهام التاريخ وخيالات الأيديولوجيا المتعصبة.

يجب ترسيخ هوية الدولة الوطنية الحديثة ذات الحدود المعروفة والعلم الواحد والمصير الواحد، ثم تحويل مركز الاهتمام من الأمة إلى الشعب، فالأمة سواء كانت عربية -كما يدعو لها القوميون والناصريون وأمثالهم- لا قيمة حقيقية لها على أرض الواقع، أم كانت إسلامية -كما تدعو لها جماعات الإسلام السياسي- فالقول بعدم قيمتها أصح من القول في سابقتها، وليس مقصود هذا السياق إلغاء وجود هويةٍ عامةٍ كالعروبة أو الإسلام، ولكنّ المقصود هو إثبات أنّ مثل هذه الهويات شديدة العمومية والاتساع والأكثر أهميةً أنها غير ذات أثر في الواقع ومصالحه ومشكلاته وتعقيداته، فلا أحد اليوم يمتلك الحق لاتخاذ قرارٍ ما باسم الأمة أياً كانت، وما بين هذه الأمم من الاختلافات كثير غزير لا يمكن ردم هوته أو تجسير فجوته، ومن هنا فإن التركيز على الهوية الوطنية يمثل المخرج الأكثر عمليةً ونجاعةً في العصر الحديث، وهذا الكلام عن الهويات المشتتة لا يلغي التكتلات السياسية والاقتصادية، التي تقود لها المصلحة ويدفع إليها الحرص على الأفضل.

حين تترسّخ هوية الدولة الوطنية، وتثبّت هوية الشعب المنتمي لها، لن يجد صانع القرار مشكلة مع الجماعات السياسية العابرة للحدود أو تلك المحلية منها كجماعات الإسلام السياسي ونحوها، فهي ستصبح -حينذاك- كغيرها من التيارات الوطنية التي يمكن التحكم بها عبر توجيهها بما يخدم الصالح العام أو الحدّ من خطرها إن وجد تحت مظلة القوانين الواحدة الراعية للحراك العام.

إن استقرار هوية الدولة الوطنية هو الأساس، ومن الطبيعي بعده أن توجد صراعات واختلافات وتيارات تنتمي جميعها لهذه الهوية الواحدة، ولنأخذ مصر كمثالٍ معبرٍ في هذا الإطار، فمصر دولة ذات هوية وطنية راسخة، ولكنّ داخلها يمور بصراعٍ مريرٍ بين الفرقاء، فالدولة هناك عاقلة بأنها دولة حديثة تخضع لشروط العصر وتنتمي لعالم الواقع، ولكنّ المجتمع أو الجماعات هناك تعيش نزاعاً شرساً فيما يتعلق بالهوية الثقافية، فالمقتنعون بالأمة لم تزل تراودهم شعارات القومية العربية، والمجتمع لم يزل فاقداً للبوصلة الهوياتية منذ الفراعنة حتى العرب، وجماعات الإٍسلام السياسي تسعى لتفتيت كل الهويات التي تمنعها من الهوية الأممية الإسلامية التي تنظّر لها وتسعى إليها جهدها.

جانب مهم من فكرة الدولة الحديثة، هو أن يكون السياسي مع مراعاته لكل طوائف المجتمع وإثنياته وفرقه وأعراقه هو صاحب القرار الأوّل والأخير، بحيث لا تتعدد مصادر القرار، وتدخل البلاد في حيص بيص كما يقال، وأوّل وأهمّ واجبات هذا السياسي هو الحفاظ على وحدة البلاد وحماية حدودها ورعاية شعبها بكل اختلافاته الدينية والعرقية والطائفية والسياسية ونحوها.

في هذا السياق يمكننا قراءة ما يجري في السودان المهدّد جدياً بانفصال جنوبه عن شماله، فثمة تناقض جدير بالملاحظة والرصد، فالسودان منذ استقلاله كان يضمّ العديد من المكوّنات المختلفة والمتناقضة، وكانت قياداته السياسية حريصةً على الدوام على رعاية هذه الاختلافات والمحافظة على الوحدة كأولوية قصوى للبلاد وشعبها، ولكنّ هذا الأمر اختلف لدى القيادة السياسية السودانية الحالية، فأولويتها كانت المحافظة على الجماعة الإسلامية لا على الدولة الوطنية، وتفصيل هذا طويل تم التطرق لبعضه سابقاً، وكانت نتيجة هذه الأولوية الخاطئة أن ألوية الانفصال أصبحت الآن عاليةً خفّاقةً تحظى بقوةٍ وتأييدٍ لم تحصل من قبل على مثلهما، والتناقض المشار له أعلاه يمكن رصده بجلاء في تصريحات البشير وقائد "الحركة الشعبية" الداعية بقوة لانفصال الجنوب سلفاكير، فالبشير يعد بعد تقسيم السودان بتطبيق الشريعة وتوحيد اللغة والإعلان عن دولة الشعب الواحد والدين الواحد، بينما يعد سلفاكير في دولة الجنوب القادمة ببلدٍ متعدد الأديان والثقافات واللغات!

إن هذين التصريحين يمثلان نموذجاً ينبئنا بمن ينتمي للسياسة وواقعها وشروطه ومفاهيمه ومبادئه. ومن ينتمي للأيديولوجيا وخيالاتها وأوهامها، والتاريخ الحديث يخبرنا كيف أن الإخفاق السياسي لدى الإسلامويين يلجئهم دائماً إلى الأيديولوجيا للاحتماء بها، فكما صنع البشير اليوم بتصريحه السابق صنع الخميني من قبل في الثورة الإسلامية في إيران، فمع كل إخفاقٍ سياسيٍ كانت الشعارات الأيديولوجية ترفع عالياً وبكل الزخم الممكن، وهكذا يفعل نصر الله و"حزبه الإلهي" في لبنان، وهكذا تصنع "حماس" وخيباتها في فلسطين، والشواهد كثيرة والأمثلة وفيرة، ولكن يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.

إن الحاضر في السودان لا يحتمل عبء أخطاء التاريخ بقدر ما يحمل أثقال الواقع وقراراته وسياساته، والتشبّث بالأيديولوجيا عند الفشل السياسي لا يعني شيئاً أكثر من التعبير عن الإخفاق في التخطيط والعمل والإنجاز، والانشغال بالتافه عن المهمّ، بالهامش عن المتن، بالصغير عن الكبير.

السياسة لها لغة ومنطق ورائد، والأيديولوجيا كذلك، فالسياسة لغتها المصالح ومنطقها العقل ورائدها التطوير والتنمية، أمّا الأيديولوجيا فلغتها الغيب ومنطقها الوهم ورائدها التعصّب، قد تجمح السياسة وتخطئ، ولكنّ لغتها ومنطقها يعيدانها إلى الطريق الصحيح، فهي لا تأنف من الاعتراف بالخطأ وإصلاحه، ولكنّ الأيديولوجيا ليست كذلك، فهي تعتبر نفسها مقدسةً، وبالتالي لا يمكن أن تخطئ لدى نفسها ومعتنقيها، فتستمرّ دائماً على أخطائها وتجرجر أذيالها على خيبات إثر خيباتٍ وانحدارٍ تلو انحدار دون أن تمتلك أي قدرةٍ على التصحيح والتغيير فضلاً عن التطوير.

من هنا فإن الأيديولوجيين المتعصبين حين يدخلون السياسة ويؤثرون فيها بشكل أو بآخر يفسدون العالم وينشرون الخراب في الأرض، هكذا يصنعون في الشرق والغرب، وفي كل مكان امتلكوا فيه تأثيراً وحصلوا فيه على أوراق يلعبون بها، لا يصح هذا على القاعدة وجماعات الإسلام السياسي المؤدلجة إلا بقدر ما يصح على آيات الله المقتحمين عالم السياسة متدرعين بالأيديولوجيا، وقل مثل هذا في إسرائيل ومؤدلجيها، وفي كل مكانٍ في العالم يدخل الأيديولوجيون المتعصبون فيه عالم السياسة.

الخلط بين السياسة والأيديولوجيا هو على الدوام جمع للزيت والنار، والنتيجة دائماً حرائق داخلية وخارجية، وتشتت وتشرذم، وأشلاء ودماء، وقبل هذا وذاك إلغاء للفرد، ووأد للطموح، وقتل للتطوير، ومقبرة للعقل، وحينذاك يصبح التسامح جريمةً لا تغتفر، والنقد خيانةً لا هوادة معها، والإصلاح مصطلح شيطاني محاربته واجبة والقضاء عليه فرض، وبمثل هذا تدمّر الأوطان وتحترب الشعوب في معارك بلا رايات.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف