عامان على ذكرى المجزرة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
مرام عبدالرحمن مكاوي
ليس العرب وحدهم من يحيون ذكرى مصائبهم، بل لعلهم في ذلك أقل بكثير من غيرهم، فها هو عدوهم المباشر لا يزال يقتات من مجزرة الهولوكست ويبتز دول أوروبا
أكتب مقالي هذا في صبيحة يوم السابع والعشرين من ديسمبر، وكنتُ قد نويت الكتابة عن موضوع محلي مختلف تماماً، حتى تذكرت ماذا يعني هذا التاريخ .. فما أسرع ما تغرق الذاكرة العربية في النسيان! فاليوم يصادف الذكرى الثانية لمجزرة غزة، أجل الذكرى الثانية ..لا.. ليست الخمسين ولا الستين ولا السبعين..حدث هذا بالأمس فقط، أنا وأنتم - قراء هذه السطور- كنا موجودين على ظهر هذا الكوكب حين وقعت هذه الأحداث وتابعناها - البعض رغماً عنه - عبر الشاشات الفضائية والأرضية، وعبر الأثير الإلكتروني الرحب، وغردنا بشأنها على تويتر وتبادلنا الروابط على الفيسبوك والبريد الإلكتروني، وكتبنا مئات المقالات على الصحف الورقية والمدونات الشبكية، وبعضنا - حيث سمح الزمان والمكان - خرج في الشوارع ليتظاهر مطالباً العالم فقط بأن يواجه نفسه في المرآة إن كان يجرؤ على ذلك! ومتسائلاً بمرارة كيف تسمح البشرية التي شبت عن الطوق، وأدركت فظائع الاحتلال وحق الشعوب في تقرير المصير باستمرار هذه المجزرة المهزلة لشعب صغير أعزل يحاصر ويجوع وتمطره البوارج والمدافع والدبابات بنيران حارقة وبأسلحة محرمة دولياً لتجبره على أن يغادر أرضه ويُسلّم شرفه؟
ما حصل في غزة قبل عامين بالضبط لا يمكن أن نطلق عليه سوى مجزرة .. وهي مجزرة استمرت لاثنين وعشرين يوماً قتل فيها أكثر من ألف وأربعمائة مواطن فلسطيني، وجرح أكثر من خمسة آلاف، وذلك بدعوى استهداف مسلحي حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، في حين أن الواقع يقول بأن معظم هؤلاء الضحايا كانوا مدنيين..طلاب مدارس وجامعات..نساء وأطفالا..آباء وأولياء أمور بالكاد يجدون الخبز اليومي لأسرهم في ظل الحصار الظالم..أسر بأكملها قُضي عليها مرة واحدة. حجم الكارثة كان كبيراً لدرجة أن منظمة الصليب الأحمر الدولي نفسها تظاهرت ضد إسرائيل، فمستشفيات غزة فاضت بمن فيها. بل إن إسرائيل قصفت حتى مدارس ترفع راية الأمم المتحدة. فالعدوان كما الحصار يستهدفان بالأساس الشعب الفلسطيني كعقاب له على ما يبدو على خياره السياسي الحر، وأيضاً لأن المشروع الصهيوني الاستيطاني التوسعي هدفه إخلاء الأرض العربية سواء تحقق هذا بالتهجير أو الإبادة فكل الطرق تؤدي إلى روما..أو إلى القدس.
ما جدوى الكتابة عن غزة اليوم؟ هل هذه لطمية" فش الخلق"؟ هل هكذا هم العرب يحبون البكاء على الأطلال بدلاً من التركيز على قضايا التنمية القُطرية وعلى المشكلات المحلية؟ ألم ينته زمن الشعارات؟ ألا يجدر بالكاتب أن يبتعد عن هذه القضايا" المزعجة"ويكتب عما ينفع وطنه أكثر ولا يورطه في المشكلات أو التصنيفات:عروبي..قومي..إسلاموي..راديكالي..أصولي..أو ما هو أسوأ من ذلك..إرهابي؟
ابتداء ليس العرب وحدهم من يحيون ذكرى مصائبهم، بل لعلهم في ذلك أقل بكثير من غيرهم، فها هو عدوهم المباشر لا يزال يقتات من مجزرة الهولوكست ويبتز دول أوروبا بعد مضي أكثر من خمس وستين سنة على انتهاء الحرب العالمية الثانية. ولا تكاد تخلو عواصم أوروبا وأمريكا الهامة ومدنها الرئيسية من متحف يذكر بفظائع النازية وجريمة العداء للسامية التي يراد لها أن تترسخ في الذهنية العالمية كأبشع جريمة إنسانية. هذا بالرغم من أن تلك المأساة انتهت، والمسؤولين تمت مطاردتهم ومحاكمتهم، بل لا يزال بعض الجنود والضباط الصغار الذين عملوا في معتقلات النازية يُطاردون دولياً حتى اليوم لتقديمهم للمحاكمة رغم أن أعمارهم تجاوزت الثمانين..فالحق لا يموت. فلماذا حين يتحدث العربي أو المسلم عن مأساة لا تزال قائمة، ومجزرة لم تجف دماء شهدائها يصبح غوغائياً ومضللاً ورجعياً؟
كانت حرب العاشر من رمضان ١٣٩٣هجرية المعروفة بحرب أكتوبر/ تشرين ١٩٧٣م..آخر الحروب التي شاركت فيها الجيوش العربية قبل أن يتم تحييدها، وفي ظل غياب الخيار العسكري الرسمي من الخارج، واقتصار المقاومة الداخلية على أهل فلسطين بسبب إغلاق الحدود، باتت الخيارات أمام الإنسان الذي يريد أن يناصر فلسطين من أي جنس أو ملة محدودة جداً، وتتفاوت بشدة ما بين دولة وأخرى. والمثير للعجب هنا أن هذه الخيارات أكثر تنوعاً وتأثيراً في الدول الغربية نفسها، في حين تتقلص كثيراً في الدول الشقيقة التي تتشارك مع فلسطين في التاريخ واللغة والدين والجوار والمصالح المشتركة كما تعلمنا ذات زمن جميل في حصص الجغرافيا. ففي الوقت الذي كان يخيم فيه عشرات النشطاء الإنجليز أمام مبنى وستمنستر البريطاني العريق في لندن في أجواء برودة تدنت إلى ما دون الصفر دون أن ينهرهم أفراد الشرطة الذين يحرسون المكان، كان هناك أكثر من رئيس تحرير صحيفة عربية يشطب جملة هنا أو يحجب مقالاً هناك لأنه ينادي بحق فلسطين أو يحذر من مغبة التطبيع!
مقاومة التطبيع والمقاطعة هما آخر أسلحة الإنسان الذي يرغب ليس فقط في دعم فلسطين وإنما في أن يحمي إنسانيته من أن تتعرض هي بدورها لمجزرة، فحين تبرر مصافحتك لقاتل، أو أنسك مع مغتصب، أو لعبك مع عصابة من اللصوص، بدعوى أنه لا يجب خلط الأوراق، أو حين تعتقد أن شراءك لمنتج كمالي ما من شركة تعرف تماماً بأنها أول من يستثمر في المستوطنات، أو يدعم الكيان الصهيوني بأي شكل من الأشكال، حين تفعل أياً من هذه الأمور فأنت لم تقف على الحياد، بل قد اخترت أن تنحاز للظالم ولو رمزياً، وحين تنحاز للظلم وأهله فإنك كإنسان تبدأ بالتحلل داخلياً.. فلن يموت جسدك لكن لن يبقى لك سواه.. سامحينا يا غزة.