وحدة الثقافة العربية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
عمّار علي حسن
تعد العناصر التي تشكل الثقافة العربية، أعمق أثراً، من أن يتم تجنيبها أو إزاحتها إلى الحد الذي تفقد فيه كامل طاقتها وفاعليتها، لأنها راسخة البنيان ومستمرة ومتمددة في الزمان والمكان. وأول هذه العناصر هو كون المنطقة العربية مهد الحضارات الإنسانية، إذ إن الفرعونية والبابلية والآشورية تعد من أقدم الحضارات، كما أن هذه المنطقة هي مهبط الأديان السماوية، اليهودية والمسيحية والإسلام. وهذان العنصران انصهرا مع عناصر أخرى في عملية إنتاج التاريخ الاجتماعي للعالم العربي، ولا يمكن فهمه إلا في حضورهما. وجاءت اللغة العربية، التي تنطوي على قوة ذاتية في أبجديتها وأجروميتها، لتعزز عناصر التوحد الثقافي العربي، ورسخ هذه الفاعلية أن العربية مرتبطة بالكتاب المقدس لأغلبية الشعوب العربية وهو "القرآن الكريم"، بل إن المسيحيين العرب ترجموا الأناجيل إلى العربية، وتعبدوا بهذه اللغة في كنائسهم.
ولا يكفي اجتماع اللسان الواحد والأرض المتوحدة لإيجاد "الأمة" بل يجب أن تحضر الثقافة بوصفها "الكل المعقد" الذي يشمل المعارف والمعتقدات والفنون والقانون والأخلاق والأعراف وأية قدرات أخرى يكتسبها الإنسان لكونه فرداً في جماعة، إلى جانب الاتجاهات والقيم السائدة في مجتمع معين، كما تعبر عنها الرموز اللغوية والأساطير والطقوس، وطرائق العيش، والمؤسسات التعليمية والدينية والسياسية.
وانطلاقاً من هذا التعريف الجامع لـ"الثقافة" نجد أن هناك مسارات عدة، صبت في الرافد الثقافي العربي الواحد، يمكن ذكرها على النحو التالي:
1 - وحدة المعين الفقهي: فالأغلبية العربية من المسلمين تنهل من مشرب فقهي واحد تقريباً، يتوزع على المذاهب الأربعة الشهيرة، وهي الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية. وهذا الأمر جعل أشكال العبادات وبعض الطقوس التي يدخل الدين في تشكيلها، مثل عقود الزواج، ومراسم الجنائز والحفلات الدينية والاجتماعية، متشابهة عند العرب، فمثلا نجد أن الحنفية في مصر يفعلون ما يفعله أتباع هذا المذهب في العراق، وأتباع الشافعية في اليمن يتطابقون إلى حد بعيد مع نظرائهم في مصر. وجاءت الطرق الصوفية، بأورادها وطقوسها، لتكمل هذه العملية، حيث انتقلت من المغرب إلى مصر والعراق، صعوداً وهبوطاً، وبنت مؤسسات اجتماعية ودينية عابرة للحدود. وحين بدأت حركة تجديد الفقه الإسلامي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين استمر هذا التأثير المتبادل في العالم العربي.
وبالطبع فإن الأفكار المغايرة التي أنتجها اليسار العربي أو الليبراليون العرب في مرحلة متأخرة، انداحت هي الأخرى في بلدان عربية شتى، لكنها لم تتغلغل بالكم والكيف نفسه الذي تغلغلت به الثقافات النابعة من الفقه والفكر الديني. إذ لا تزال أفكار اليساريين والليبراليين العرب، فضلا عن استعارة أسسها من ثقافات مغايرة، مقصورة على النخب السياسية والفكرية.
2 - وحدة التراث الأدبي، فحين تسأل أي مثقف عربي من المحيط إلى الخليج عن أفضل الشعراء الأقدمين لديه ستأتي الإجابات متشابهة إلى حد كبير، وسنجد أسماء أمرئ القيس وجرير والفرزدق والمتنبي والبحتري وأبي نواس متكررة بشكل لافت، وسنجد الأسماء التي ضمها كتاب "الأغاني" الموسوعي لأبي الفرج الأصفهاني هي التي ترد في الكتب المعاصرة والمقالات النقدية والبرامج الثقافية بمختلف الدول العربية. وإن سألت المختصين عن الإرهاصات الأولى للحكائية أو الرواية العربية سيتذكرون على الفور مقامات بديع الزمان الهمذاني والحريري. وسيُطرح اسم ابن خلدون في علم الاجتماع، وابن رشد في الفلسفة.. وهكذا. وإذا تتبعنا تأثير الأدب العربي القديم بشتى أنواعه، التي أوضحها المستشرق الألماني كارل بروكلمان في موسوعة له بهذا الخصوص أو في نظيرتها التي أنتجها الدكتور شوقي ضيف، سنجد أن هذا الأدب قد ترك بصمات على المنتج الأدبي الراهن، في اللغة والبنية والتشكيل الجمالي ورسم العوالم الإنسانية والاجتماعية وغيرها.
3 - النزعة العروبية للفلكلور: فهناك تشابه كبير في مفردات الفلكلور الذي تحمله القرائح العربية، بشتى ألوانه، فالملاحم والأساطير والحكايات الشعبية والأمثال والأغاني وفن الموال والعديد والشعر الشعبي وغيرها، تنطوي على قيم متطابقة، وروايات متقاربة، وتؤدي الوظيفة نفسها، على رغم اختلاف المنطوق اللفظي، وفق اللهجات المحلية في كل بلد عربي.
والثقافة الشعبية هي أفضل ما تنطبق عليه رؤية "هربرت ريد" الذي ذهب إلى أن الوضع الأمثل والأعلى للثقافة هو أن تتوارى وتؤثر من دون أن يشعر بها الإنسان، بعد أن تندمج في شخصيته، وتذوب في وجوده، وتستقر في اللاشعور أو "العقل اللاواعي" في صمت شديد، وتصير جزءاً من كيان الفرد، فتوجِّه سلوكه، وتدفع إلى التصرف بطريقة معينة، من دون أن يحدد هو على وجه اليقين الطاقة الخفية التي تجعله يعمل بطريقة معينة، أو يعتقد أنه يتصرف هكذا لأنه مدرك تماماً الوقوف على الاختيارات التي تحقق مصالحه المعنوية والمادية.
ولهذا فإن دور الفلكلور في الحفاظ على الشعور العربي العام بالتقارب والتآلف غاية في القوة والتأثير، وربما يكون هو الذي يشكل جزءاً مهماً من الخلفية العريضة التي تجعل بعض المواطنين العرب لا يشعرون باغتراب، أثناء تواجدهم في بلدان عربية غير وطنهم الأم، ويستفيضون في الحديث عن وحدة القيم وتقارب العادات، ويستقر في ضمائرهم يقين راسخ بوحدة المصير العربي، مهما تفرقت السياسة بين الدول العربية.
4 - حالة التفاعل المستمر بين البداوة والحضر في الحياة الاجتماعية العربية. فالعالم العربي تشكل عبر الاختلاط بين السكان الذين كانوا مستقرين حول الأنهار في مصر والعراق والشام والمغرب وأهل البادية الذين زحفوا باتجاه ما يسمى في التاريخ "الأمصار الإسلامية" مع حركة "الفتوحات" التي بنت في طريقها إمبراطورية مرهوبة الجانب.
في خاتمة المطاف فإن هذه المسارات التي تسلكها الثقافة تبين أن بوسعها أن تسد الهوة، التي تخلفها السياسة العربية البينية، لكن بقاء هذه الفرصة وتعززها مشروط بأن تُترك الثقافة تتفاعل وتنمو وفق إمكاناتها الذاتية الحرة، ولا تتدخل السلطات فيها، فتدجنها وتطوعها لخدمة مشاريع سياسية لا تزال عاجزة عن بناء وحدة عربية حتى عند حدها الأدنى المقبول. فمثل هذا التدخل قد يحول جزءاً لا يستهان به من الثقافة إلى عنصر للتنافس والصراع مع أنها تنزع بطبيعتها، في الغالب الأعم، إلى التئام العرب وتوحدهم.