جريدة الجرائد

حماية سوق الفتوى من "المهربين"

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

محمد المختار الفال


تشهد "أسواق" الفتوى تنافسا محموما يدفع بكل أنواع البضائع والمصنوعات، الأصيلة والمقلدة، الجديدة المبتكرة النافعة إلى جانب القديمة الجامدة الضارة.. وهذا اللغط فتح الباب واسعا ليدخل منه تجار يروجون بضاعتهم التي لم تمر على (جمارك) النصوص المعتبرة ولم تفحصها محطات العقول الراشدة ولم يجزها المنطق المراعي لعناصر الزمان والمكان ولم تحصل على شهادة المنشأ من (مصانع) الفتوى التي تراعي المواصفات والمقاييس الصادرة عن (أهل الصناعة) الذين يبيحون عرضها على الجمهور بعد التأكد من ضمان سلامتها وصلاحية استخدامها. وفي ظل هذه "الهيصة" دخل هذه الأسواق (مهربون) من خارج حدود الزمان والواقع متنكرين في أثواب"صناع" مهرة يروجون بضائع فاسدة تستهدف جمهورا قليل الخبرة مليئا بالحماسة مستجيبا لكل ما يعرض عليه تحت مظنة أن الفتوى مسؤولية وأن قائلها لابد أن يكون قد راعى مخافة الله فيما يقول.
ويرى بعض أهل (الصناعة) أن من الفتاوى المنتشرة في أسواق هذا الزمان: الفتاوى الجاهزة التي ورثها الأبناء عن الآباء والفتاوى (المفصلة) التي تفصل حسب الحاجة والطلب والفتاوى التي تجمع بين النص المعتبر والبصيرة الواعية.
والفتاوى (الموروثة) قد تكون على مقاس بعض الوارثين (بالصدفة) ولكنها بالتأكيد ليست على مقاس الكثيرين الراغبين في البقاء قريبين من الموروث فيضطرون إلى أن "يحشروا" شحومهم وزوائدهم فيظهروا في وضع كاريكاتيري لا يستر عورة ولا يجمل جسدا ولا يقي من حر أو برد. هذا النوع من الفتاوى (فصله) السابقون حسب حاجتهم ومقتضيات حياتهم ومناخاتهم ولم يلزموا أحدا باستخدام "معاييرهم العقلية" في فهم النصوص واستخلاص ما انتهوا إليه من مقاصد الشارع. وهذا النوع من الفتاوى قد يتلاءم مع الذين لم يغيروا أحوال معيشتهم ولم يبدلوا منازلهم ولم يغادروا واحات نخيلهم أو أسواقهم الأسبوعية وظلت صورة تلقي التعليم في وعيهم مكانها منذ قرون لم تتغير وظلت "مقاساتهم" ثابتة أما الذين رحلوا من المنازل القديمة وامتدت علاقاتهم إلى أطراف الدنيا وطلبوا العلم في بيئات أخرى وتعقدت متطلباتهم واتسعت دائرة حركتهم فمن المؤكد أن الكثير من الفتاوى المفصلة على الأجسام القديمة لا تصلح لهم وفرضها عليهم وعسفهم على قبولها يضعهم أمام خيارين: إما محاولة "ضغط" حياتهم فيها فتتمزق ويجدون أنفسهم في العراء مكشوفين فيخسرونها ولا يغنمون غيرها وإما أن يتأملوا مقتضيات العصر واحتياجاته فيتجهون إلى من يمكنه أن ينظر في النصوص المعتبرة المحققة لمقاصد الشارع فينزلها على الواقع دون أن يجعل الإنسان أمام خيارين: إما الالتزام بأحكام الدين أو الركون إلى حضن الحياة بمعزل عن مقتضيات الشريعة.. والناس في زماننا هذا في حاجة إلى فقهاء يجمعون بين "الثابت والمتحول" أي بين النصوص المعتبرة وبين مقاصد الشريعة التي من روحها مراعاة مصالح الناس والعناية بمتغيرات الزمان والمكان. وأي فتاوى لا تتوفر على هذه العناصر التي تراعي النصوص المعتبرة وتسترشد بمقاصد الشريعة وتراعي ظروف الناس المتغيرة لن تصل إلى الهدف الذي يوفر للإنسان الانسجام المطلوب بين رضاه عن نفسه حين يستجيب لأمر دينه وبين رغبته في الحياة وقدرته على مواجهة الواقع بكل تعقيدات علاقاته وتجاذبات أفكاره. فالفتاوى المطلوبة هي تلك التي لا تجعل الإنسان في "أزمة" بين انسجام سلوكه مع أوامر الشرع وبين العيش في الواقع.
وإذا كانت الأسواق التي توفر للناس حاجة بطونهم وزينة أجسادهم تحتاج إلى رقابة وحماية لمصالح المستهلكين فإن سوق الفتاوى التي تلبي احتياجات الناس إلى إنزال أحكام الشرع على واقعهم بما يحفظ لهم التوازن ويساعدهم على الاستجابة لمقتضيات دينهم دون عنت ودون انفصام عن عصرهم واحتياجاته.. وتحتاج هذه السوق التي تغمرها الفتاوى الغريبة إلى تنظيم وضوابط حتى لا يتسلل إليها "المهربون" وأصحاب البضائع المغشوشة الذين يستغلون إقبال البسطاء على ما اعتادوه من "منتوجات".
ولأن غالبية المستهلكين من مرتادي سوق الفتوى هم من قليلي الخبرة والعلم ومن أصحاب النوايا الطيبة، تخدعهم المظاهر وتستدرجهم الحماسة فهم في أمس الحاجة إلى الحماية والتبصير بالأخطاء والأخطار التي تحملها بعض الفتاوى دون أن تراعي سلامة المجتمع. ويتطلب الأمر حماية المترددين على هذه السوق من الغشاشين ومروجي المنتجات الفاسدة.
فمن المسؤول عن رقابة هذه السوق؟ ومن المسؤول عن كشف أخطاء من يدخلها وخطر ما يروج له وما يصدره؟. من البديهي أنهم العلماء فهم أهل "الصناعة" العارفون بفنونها القادرون على بيان ما فيها من صواب وخطأ. ومن هنا تعظم مسؤوليتهم وتثقل أمانتهم فمن واجبهم ألا يجاملوا في الحق أحدا، مهما كانت مكانته أو هيبته ولا يدخلوا في حساباتهم مساندة وجهة نظر في القضايا الاجتماعية أو الوقوف في وجه أخرى لا يتفقون مع تصورها. وصمتهم عن الخطأ وتبريرهم للزلل، من أجل مناصرة موقف ضد آخر تترتب عليه مفاسد تنقلهم من خانة الشهود إلى مواقع المشاركين. فهل تنهض المراكز العلمية والمجمعات الفقهية بهذا الدور المهم حتى تحمي عامة الناس من أخطاء بعض من يتصدى للفتوى ويزرع بفتاواه سموما تنهك قوى المجتمع أو تفجر فيه تناقضات تحت وهم موافقة الأفكار الشاذة للشرع؟.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف