جريدة الجرائد

انحسار الديمقراطيات "الوافدة" . . . هل انتهت "الحفلة"؟

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

محمد جابر الأنصاري

يسود العالم اليوم شعور كاسح بأن المسيرة الديمقراطية في أماكن كثيرة تعاني تراجعاً لافتاً . وتصدر التقارير والتحذيرات من الهيئات المختصة بهذا الشأن وبخلاف إدارة بوش، فقد انتهجت إدارة أوباما موقف ldquo;تشجيعrdquo; الديمقراطية، دون محاولة فرضها مع الاعتراف بخصوصية كل بلد . ولابد في الواقع من ldquo;وقفة مراجعةrdquo; موضوعية وجادة، إلى أبعد الحدود، لرؤية الأفق البعيد وسط هذا الضباب وهذه الغيوم التي أصبحت تسد الرؤية وتسبب الإحباط للكثيرين، ولا بد من واقعية المنهج وموضوعية البحث للتوصل إلى تشخيص مقنع وأقرب إلى الصحة .

وما زلت على اعتقادي الراسخ أن الديمقراطية ldquo;لا بد، ويجب، وينبغيrdquo; أن تكون لها جذورها الاجتماعية الملائمة لتقوم وتنمو وتتطور، وإلا فإنها نبتة في مهب الريح، ويمكن أن تطيح بها أي نسمة هواء، ولا يمكن أن تنقذها النوايا الطيبة، أو حقوق الإنسان، أو الضغوط الخارجية فبالإمكان إصدار دستور يتضمن برلماناً منتخباً من دون تنفيذ .

من جانب آخر، رغم صغر البحرين - مثلاً - فإن التطور الحضاري التنموي الذي مر به مجتمعها منذ عشرينيات القرن المنصرم، يساعد اليوم على نجاح ldquo;المشروع الإصلاحيrdquo; الذي يقوده ملكها حمد بن عيسى آل خليفة الهادف إلى تطوير سياسي يكمل التطوير الحضاري للبحرين الحديثة . وتستعد البحرين لانتخاباتها النيابية الثالثة بعد أشهر قليلة .

بعد الحرب العالمية الأولى، طالب الرئيس الأمريكي في حينه ودرو ولسون (1856 - 1924) المجتمع الدولي بالسعي إلى إقرار حق ldquo;تقرير المصيرrdquo; لمختلف شعوب العالم ونشر الديمقراطية في سائر بلدانه وكان من أجندته إبراز دعمه والدعم الأمريكي بعامة لعصبة الأمم التي جاء إلى أوروبا لمباركتها فلم تثمر دعوته، في ضوء التجربة، إلا حيث كانت للديمقراطية جذور مترسخة في التربة الاجتماعية، أما حيث افتقرت إلى ذلك، فإنها كانت بمثابة ldquo;حلم ليلة صيفrdquo;! وكان حلم الصيف الآخر الذي لم يتحقق انضمام أمريكا إلى عصبة الأمم .

وثمة أوجه شبه كثيرة بين الرئيس ودرو ولسون والرئيس الأمريكي الحالي باراك أوباما .

فالاثنان جاءا للبيت الأبيض من خلفية جامعية، وكلاهما ينتميان للحزب الديمقراطي . إلا أن أهم شبه بينهما هو ldquo;المثاليةrdquo; في الطرح والرغبة الملحة في ldquo;الإصلاحrdquo; . وقد أقنع ولسون الكونجرس عام 1916 بإصدار تشريعات تحدد: ساعات عمل الأطفال، وساعاته في الخطوط الحديدية، الارتقاء بمستوى التعليم، وإيصال الطرق إلى النواحي الزراعية .

ومثل أوباما، بذل ودرو ولسون جهداً كبيراً وأظهر صبراً عظيماً لتجنب دخول الحرب التي كانت عندئذ ضد ألمانيا، وكانت قطعها البحرية تغرق السفن التجارية للحلفاء وعلى متنها أمريكيون، لكنه اضطر إلى دخولها ضد الألمان في ابريل/ نيسان 1917م بعدما تمادت ألمانيا في عمليات الإغراق . والمفارقة أنه قبل ذلك التاريخ عاد إلى الرئاسة بشعار: ldquo;أبقانا ولسون بعيداً عن الحرب!rdquo; (مثلما قرر أوباما قبل أسابيع إرسال قوات إضافية إلى أفغانستان . . . تخوض الآن معارك طاحنة) .

وأيضاً مثل أوباما منح ولسون جائزة نوبل للسلام في ديسمبر 1920 وهو صاحب النقاط الأربع عشرة لإرساء عالم السلام بعد انتهاء الحرب والتي طرحها أمام الكونجرس في يوليو (تموز) 1918 . وقد اضطر الرئيس ولسون للتنازل عن بعض طروحاته المثالية، ممهداً الطريق لنشوء ldquo;عصبة الأممrdquo; . لكنه فقد الكثير من رصيده المعنوي في بلاده والعالم كما هو حاصل للرئيس أوباما اليوم وللأسباب ذاتها . غير إن ولسون قد أثبت إمكانية تحوله من ldquo;أستاذ جامعيrdquo; إلى ldquo;قائد عسكريrdquo; بعكس ما تقوله السيدة الجمهورية بالين في غمزها لقناة الرئيس أوباما .

وكان كاتب هذه السطور قد حدد شروطاً للديمقراطية، كي لا نستخدم المصطلح الديمقراطي ويعني كل طرف أشياء أخرى، في كتابه (العرب والسياسة: أين الخلل، في ص 711) .

وبعد تلك الشروط، تم التنبيه، في الكتاب المذكور (1998) إلى العامل السوسيولوجي الأخطر: ldquo;وهو تحديداً: إذا كانت السلطة والقوى الشعبية حتى لا نقول المعارضة تنتمي في أصولها المجتمعية إلى تكوينات وبُنى عصبوية ولم تتطور اجتماعياً وحضارياً بما يؤهلها لتمثل الديمقراطية واستيعابها، فهل نتوقع منها أن تلتزم بشروط الحد الديمقراطي الأدنى؟rdquo; .

ولمن أخافهم هذا الكلام من العرب، فالمسألة ليست مسألة جينات لا مفر منها، وإنما هي مسألة افتقار للتطور الاجتماعي والتنموي والحضاري الذي لا بد أن يحدث قبل أي تحول ديمقراطي .

وباختصار: ldquo;فلا ديمقراطية بلا ديمقراطيين . ومن هذه الزاوية تبدو مسألة الإعداد الجماعي للديمقراطية طويلة الأمد تقتضي أجيالاً من التحول المجتمعي التنموي والتحضيري التقدمي . ولا توجد في التاريخ حلول سحرية، وفاقد الشيء لا يعطيهrdquo; (المصدر المذكور، ص 173) .

ومصداق ذلك نراه الآن رأي العين في العراق . ومن غير المستبعد ظهوره في مجتمعات عربية إسلامية أخرى (وذلك ما يراهن عليه الآخرون في مواجهتهم للعرب والمسلمين) . ولذلك قال الأقدمون، في الفكر السياسي الإسلامي: ldquo;سلطان غشوم ولا فتنة تدومrdquo; حيث لم يكن الاختيار بين الاستبداد والحرية، بل بين الاستبداد وrdquo;الفتنةrdquo; الدموية! ولهذا قال الإمام علي في نهج البلاغة: ldquo;ولا بد للناس من إمام برٍ أو فاجر تأمن به السبل . . . الخrdquo; .

وعلينا ألا نتمسك بأي وهم: إن ldquo;الإسلام الإلهيrdquo; يحمل مبادئ قابلة للتطور ديمقراطياً (بما في ذلك ldquo;صحيفة المدينةrdquo; المغفلة للأسف والتي وضعها النبي الكريم بنفسه !) . ولكن ldquo;الإسلام التاريخيrdquo;، أعني اجتهاد المسلمين في الحكم، لم يحمل ldquo;مظاهرrdquo; للشورى في الممارسة . . . ناهيك بالديمقراطية، وهو حديث يطول، وربما كان له موضع آخر .

وعودة إلى أيامنا هذه، فإن مظاهر تقدم الديمقراطية كثيرة، أبرزها انتخاب الأمريكيين لرئيس من غير البيض والمجتمع الأمريكي متطور ديمقراطياً منذ زمن كما تتطور روسيا نحو الديمقراطية تدريجاً، وستأخذ وقتاً غير قصير إلى أن تصل، وفي عالمنا العربي نرى إن انقلاباً عسكرياً حاكماً، كالانقلاب السوداني، يتجه اليوم إلى انتخابات ديمقراطية، بعد عشرين عاماً من غيابها، وتظهر القيادة السودانية الحالية مرونة سياسية تفهم التطور، والمأمول أن تبقى ماسكة بزمام الأمور، لأنها إن أفلتت فإن ldquo;المكونات السودانيةrdquo; ستتواجه في وضع آخر لا يختلف كثيراً عن الوضع العراقي .

ويقود الملك عبدالله بن عبدالعزيز، عملية تطوير اجتماعي وحكومي لا يخلو من أبعاد سياسية في مجتمع تتوجس قواه المجتمعية من الانفتاح أكثر من سلطاته . وهي ldquo;ظاهرةrdquo; إن نجحت ستكون تغيراً جذرياً مهماً في المشهد العربي .

غير أن ثمة مؤشرات أخرى في عالمنا تشير إلى الاتجاه المعاكس من أبرزها تحفظ الصين، التي تعتبر قوة دولية صاعدة وتمثل حوالي ربع البشرية بثقلها السكاني، حيال الديمقراطية .

كما أن انحسار الديمقراطيات في العالم العربي والإسلامي ظاهرة لا تخطئها العين . وعندما يحل قائد ldquo;ثوريrdquo; محل أي دكتاتور ldquo;رجعيrdquo; فلا بد أن يكون مثله دكتاتوراً، لأن الديمقراطيات لا تولد فجأة . هكذا كان لينين بعد القيصر الذي ثار عليه بين أمثلة كثيرة . . . أما ستالين . . . فرحمة الله على القيصر .


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
مقال غريب
حيدر -

من الغريب جدا انه في الوقت الذي تتحول به احدى اهم دول المنطقة من نظام دكتاتوري سابق الى نظام ديمقراطي حقيقي تتنافس به الكتل المرشحة بسخونة يخرج علينا كاتب المقال بفكرة ان الديمقراطية تنحسر... عجيب امور غريب قضية !