إعادة اختراع العالم!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
السيد يسين
التفتنا منذ بداية التسعينيات إلى أهمية إدراك وفهم منطق التغيرات العالمية التي بسطت رواقها على مختلف المجتمعات الإنسانية المعاصرة، بحكم عديد من الثورات العلمية والتكنولوجية والمعلوماتية.
ولعل تزامن هذه الثورات جميعاً هو الذي فتح الطريق أمام عملية كبرى هي ما أطلقنا عليه "إعادة اختراع العالم"! بمعنى إعادة صياغة الأنساق السياسية والاقتصادية والثقافية في ضوء موجِّهات قيميّة جديدة تمام الجدة.
وهذه الموجهات القيمية تمت صياغتها في ضوء استخلاص الخبرة من أحداث القرن العشرين من ناحية، وصعود نماذج معرفية وثقافية جديدة أبرزها التحول من نظريات الحداثة الغربية التي كانت وراء التقدم الإنساني إلى نظريات ما بعد الحداثة التي اعتبرت، لأسباب شتى، أن الحداثة كمشروع حضاري غربي مرحلة وصلت إلى منتهاها.
وقد سبق لنا أن طرحنا سؤالاً مهماً هو: كيف تعامل المثقفون العرب مع المتغيرات العالمية؟ وأهمية الإجابة عليه أنها يمكن أن تكشف عن جوانب القصور في العقل السياسي العربي المعاصر.
وابتداء يمكن القول إن أحد عناصر العقل السياسي الحي هو القدرة على استيعاب الجديد الذي يحدث على الساحة السياسية والاقتصادية والثقافية في العالم.
وعملية الاستيعاب الفكري مسألة معقدة. فهي تتطلب -أول ما تتطلب- الرصد الدقيق للمؤشرات التي تعكس التغير في السياسات والمواقف والاتجاهات، غير أن الخطوة التالية لذلك هي تصنيف هذه المؤشرات وفق نسق تحليلي بصير توجهه نظرية عامة قادرة على النفاذ إلى لب الوقائع والأشياء لتفسيرها. والتفسير ليس هو العملية الأخيرة في الاستيعاب، بل إن التكيف الفكري مع المتغيرات الجديدة مسألة حاسمة في حيوية العقل السياسي المعاصر.
والتكيف لا يعني بالضرورة التخلي الكامل عن مواقف سابقة، أو التنكر المطلق لنسق القيم الذي سبق تبنيه من قبل، بل إنه يعني أساساً القدرة على التعديل الجزئي في المواقف، والذي قد يصل -في بعض الحالات- إلى المراجعة الشاملة، تمهيداً للانطلاق على هدي مبادئ وقيم مختلفة.
وإذا كنا من قبل تحدثنا عن الخيارات المفتوحة أمام صناع القرار والمجتمعات عموماً بين التعديلات الجزئية في المواقف والمراجعة الشاملة لأنساق القيم السياسية والاقتصادية والثقافية السائدة، فإننا اليوم -في ضوء التطورات العظمى، التي حدثت منذ التسعينيات وحتى اليوم، نؤكد أن التعديلات الجزئية لن تصلح، وأننا -على مستوى كافة الثقافات والمجتمعات- في حاجة إلى مراجعة شاملة.
ومرد هذه المراجعة الشاملة إلى أن التحولات في بنية المجتمع العالمي كانت أشبه بفيضان عظيم لم تتوقف موجاته المتتابعة عن التدفق إلى أن بدأ يتشكل تحت وطأتها عالم جديد حقاً.
ولو أردنا أن نحصر هذه التدفقات الكبرى لقلنا إن أهمها على الإطلاق هي الثورة الكبرى في مجال الاتصال الإنساني بكافة مستوياته ونعني الاتصال بين الفرد والفرد وبين الثقافة والثقافة وبين الفرد والدولة.
وهذه الثورة مردها إلى الثورة الاتصالية الكبرى وأبرز تجلياتها البث الفضائي التلفزيوني عبر الأقمار الاصطناعية، وبروز شبكة الإنترنت التي خلقت لأول مرة في تاريخ الإنسانية فضاءً عاماً جديداً يتم فيه تدفق المعلومات والأفكار وتمارس التفاعلات بين البشر في كل أنحاء المعمورة من خلال البريد الإلكتروني وغرف الدردشة والنقاش والتجارة الإلكترونية، والمدونات، و"الفيس بوك" وغيرها من وسائل الاتصال الحديثة.
وبعبارة موجزة فقد نشأ مجتمع المعلومات العالمي على أنقاض المجتمع الصناعي، وأصبحت وحدة التحليل هي الفضاء المعلوماتي Cyber Space الذي تتم فيه الآن التفاعلات بين أفراد البشر وبين الثقافات المتنوعة.
وقد أصبح على عاتق الفرد أن يتكيف مع هذه التطورات المذهلة، وإلا حكم عليه بالضياع المطلق في عالم بات سريع الإيقاع ولا مكان فيه للمتلكئين. وما ينطبق على الفرد ينطبق في المقام الأول على المجتمعات. وبعبارة أخرى، لا مجال اليوم لمجتمع سكوني جامد عاجز عن التجدد الحضاري.
وهذه الثورة في مجال الاتصال الإنساني أصبحت لها انعكاسات سياسية والاقتصادية وثقافية خطيرة. وأول هذه الانعكاسات يتعلق بالديمقراطية نظرياً وممارسة. وذلك لأن الخبرة المستخلصة من النصف الثاني من القرن العشرين تشير إلى أهمية تجديد نظرية الديمقراطية الغربية التي قامت على أساس "التمثيل" قروناً طويلة، بمعنى اختيار عدد محدود من الأفراد من خلال الانتخابات لكي "يمثلوا" الشعب في المجالس النيابية المختلفة.
وقد ثبت من خلال الممارسة أن هذا التمثيل -لأسباب شتى- لا يعبر حقيقة عن اتجاهات الشعوب. سواء لأن عدد من يشاركون في الانتخابات ضئيل بالنسبة لمجموع الناخبين نظراً لعدم مصداقية النظام الديمقراطي في أعين الكثيرين، أو لاحتكار القلة من النخب السياسية الحاكمة عملية إصدار القرار لمصالحها الخاصة وادعاء أفرادها أنهم يمثلون مصالح الجماهير. ولذلك نشأت صور جديدة من الديمقراطية مثل الديمقراطية التشاركية و"الديمقراطية الإلكترونية" التي تقوم باستطلاع آراء الجماهير عن طريق شبكة الإنترنت بشكل دوري، لمعرفة اتجاهاتهم إزاء القضايا الكبرى في المجتمع.
وهكذا أثرت الثورة الاتصالية على الممارسة الديمقراطية وإن كنا ما زلنا في بداية الطريق، ولم تستكمل حلقات التطور بعد.
غير أن الثورة الاتصالية أدت من خلال البث التلفزيوني الفضائي إلى أن يعرف الناس في كل مكان الأحداث العالمية والمحلية في الزمن الواقعي الذي تجري فيه Real Time مما ساعد على تخليق وعي كوني، بمعنى بزوغ نسق من الاتجاهات والقيم يتشارك في الإيمان به ملايين الناس الذين ينتمون إلى ثقافات شتى ومتنوعة.
ولاشك أن بث صور السيول والفيضانات بلور الاتجاه الإنساني، الذي يتمثل في التعاطف مع الضحايا أياً كانت القارة التي حدثت فيها الفيضانات مما جعل الرأي العام في كل البلاد يدفع صناع القرار للمساعدة المالية والإنسانية واسعة المدى.
كما أن بث صور الحروب القائمة سواء في العراق أو أفغانستان بلور مشاعر العداء للحرب كفعل إنساني، وأبرز من ناحية أخرى اتجاهات ترى ضرورة حل الصراعات الدولية من خلال التفاوض وليس عن طريق المدافع. أما صور الفقر المدقع الذي تعيش فيه المجتمعات الأفريقية فقد أدت إلى زيادة الوعي بضرورة إسهام الدول الغنية في القضاء على الفقر العالمي.
وهكذا أصبحت للثورة الاتصالية انعكاسات في مجال السياسة والاقتصاد والثقافة والتعاطف الإنساني.