المقولات العشر للطائفية اللبنانية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
محمود حيدر
لا كلام على المواطنة في لبنان خارج حياض الطائفة، حتى لتكاد الصلة بينهما تبدو كصلة الاسم بالصفة، أو كعلاقة المفهوم بظهوره الفعلي ومجال استعماله، وحين وضعنا المواطنة في موازاة الطائفية، فليس ذلك لنجعل منهما ثنائية متغايرة، وإنما لنتعامل معهما كقضية واحدة، فمنذ أن تشكَّل لبنان ككيان سياسي اجتماعي عبر ولاداته المتواترة (دولة لبنان الكبير 1920 وجمهورية الاستقلال 1943 وجمهورية الطائف 1989).. لا شيء ينمو ويتحرك خارج أسوار الطوائف. بالطوائف رُفِعت قواعدُ الكيان الناشئ، وعلى صورتها رُسِمَت خريطة الدولة، وتوضَّح شكل السلطة، واكتمل نظام الاجتماع السياسي. حتى صارت دولة الطوائف هي نفسها الدولة الطائفية، ذلك أن الطوائف لا تلد نظاماً سياسياً دستورياً إلا على شاكلتها. فلا ظهور لأي تشكيل سياسي أو اجتماعي يقدر على الحركة، من دون أن يتصل بهذا القدر أو ذاك، بشريعة المنظومة الطائفية وقانونها العام.
لم تفلح الظهورات اللاَّطائفية، من أحزاب علمانية، ونقابات جماهيرية، واتحادات، وجمعيات أهلية، وسائر ما استحق مجازاً صفة "المجتمع المدني"، طيلة تاريخ لبنان المعاصر في إنجاز فضيلة الاستقلال، والتحول إلى مجتمع مدني حقيقي. فعلى الرغم من فروسية أصحاب تلك الظهورات في خطابهم النقدي، وفي جرأتهم على افتضاح المفاسد الطائفية، بقيت الكتلة المدنية اللاّطائفية تنشط تحت سقف النظام الطائفي، ومكثت دون القدرة على الدفع باتجاه الإصلاح السياسي الفعلي.
ليست المواطنة، بوصف كونها هوية اللبنانيين كأفراد يعيشون تحت رعاية وعناية الدولة الطائفية، سوى مادة هذه الدولة ونظامها. فالأمر هنا لا يتعلق بالإرادة والرغبة وحكم القيمة، بقدر ما يتصل بواقع التاريخ الاجتماعي، وبنمط الحياة التي افترضتها روح الدستور وتشريعاته.
ثمة من ذهب إلى بدعة القول بالمتعالي الطائفي، وذلك لسبب يعود إلى مركزية الطوائف في تشكيل الهندسة الإجمالية للروح الوطنية. غير أن هذه المركزية سيكون لها أثرٌ حاسمٌ في إثبات موقعية المواطنة في الحياة اللبنانية. ولقد رأينا كيف فعلت الطائفية فعلتها لتحيل تلك الموقعية إلى فصل حميم من فصول حركتها. ثم ليظهر لنا كم لسلطان الطوائف من شأنية حاسمة في تشكيل حياة مواطنيه.
غير أن المفارقة المذهلة في هذا المقام، هي أن الجمهورية اللبنانية في الوقت الذي تفرض قوانينها على مُواطنها في كل الحقول، فإنها لا تعترف به كمواطن إلا بصفة كونه منتمياً لطائفته أولاً، أو آتياً بشهادة من تلك الطائفة تصدِّق انتماءه إليها..
ولذا فمن البيِّن أن كل كلام على المواطن لا يستقيم إلا على خط موازٍ للطائفة التي ينتسب إليها، بالولادة أو بالولاء.. ثمة صلة توليدية بين المواطن والطائفة. وبين المواطنة والطائفية. حتى ليَستوي القولُ على نفسٍ واحدة. بحيث يسري ذلك كقانون صارم على كل طائفة من الطوائف الثماني عشرة في لبنان.. والتي هي كناية عن عديد أبنائها المنضوين تحت لوائها السياسي الجغرافي. في حين أن هؤلاء الأبناء ليسوا سوى مواطنين مشوا تحت رايات طوائفهم، كممر إجباري للعبور إلى الوطن.
الطائفية.. الجوهر والتفريعات
لقد وجدنا لنقترب من فهم تعقيدات "الفيزياء التاريخية" للبنان، أن نعاين تأسيساته الطائفية. فعلى أرض هذه التأسيسات -كما نفترض- يمكن أن نتوفّر على ما يدنو من خريطة معرفية تُفيد مسعانا في هذا البحث. وللدخول في مثل هذه المعاينة، نقترح جملة من المقولات التأسيسية حول الدور المركزي التكويني الذي لعبته الطوائف في نشوء لبنان:
1 - الطائفية أمرٌ ذاتي وجوهري في نشوء وقيام الكيان السياسي للبنان:
وبهذا المعنى هي ليست حالة عارضة يمكن إلغاؤها وإثبات بديلها اللاطائفي عبر اتفاق بين ممثلي الطوائف المكونة للكيان. ولمّا كانت الطائفية بهذه الصفة، أي أمراً ذاتياً يقع في أصل ظهور لبنان، فإن أي مسعى لنزعها كناظم للحياة السياسية فيه، يعني منطقياً نزع أصل هذا الظهور، وهذا محال منطقياً وعملياً.
2 - الطوائف في لبنان ليست مجرد تفريعات مذهبية لكل من الديانتين الإسلامية والمسيحية، وإنما هي وحدات سياسية واجتماعية وثقافية شكلت مجتمعة أساس ظهور الجمهورية الأولى في الربع الأول من القرن العشرين المنصرم.
3 - إن طوائف لبنان لا دين لها، وهي تخوض غمار اللعبة السياسية. بمعنى أن الحاكم على سلوك ممثليها في الحكم ومؤسسات الدولة، هو الاعتبار السياسي الدنيوي، في حين لا يتعدى تدخل عاملي الدين والشريعة في ممارسة السلطة حدود السماح للمؤسسة الدينية بالوعظ وممارسة الطقوس والشعائر.
4 - الدولة بالنسبة إلى الطوائف التي اجتمعت لتؤسس لبنان التاريخي، ليست سوى إطار ناظم للميثاق السياسي فيما بينها. وكلما كان يحل العنف على لبنان ويستوطن فيه، تعود الدولة بما هي وعاء للسلام السياسي إلى صمتها وانتظارها. حتى إذا تعب المتحاربون ووهنت أحوالهم، وأدرك نظام الصراعات الدولية والإقليمية أن لعبته في لبنان قد أُشبِعَت، كانت الدولة هي المآل والمستقر.
5 - الطائفية بوصفها إيديولوجيا لبنانية:
ليست الطائفية عندنا في لبنان مجرد كلمة اعتدنا على التوقف أمامها كأمر مذموم. الطائفية فكرة وسياق ونظام حياة وتبعاً لكل هذا هي إيديولوجية. ولأنها كذلك، فعليها ابتنى أهل كل طائفة مصالحهم وأهدافهم وسياساتهم. فقد كان من البديهيات أن يتخذ الاجتماع السياسي اللبناني من لقاء الطوائف خريطته الفكرية الهادية. لعل العنصر التأسيسي في تشكُّل الإيديولوجية الطوائفية هو اليقين بأن لبنان قام ويستمر على أصالة طوائفه.
6 - لبنان بوصفه جيوبولتيكا أمنية:
حوَّلت الطوائفُ لبنانَ، خصوصاً في أزمنة الحرب والنزاعات الأهلية، إلى مقولة أمنية. لكل طائفة، بما هي وحدة إيديولوجية وسياسية وثقافية، إستراتيجيات أمن خاصة بها. بسبب المقولة الأمنية سوف تُقفل النوافذ أمام نشوء ما يسمى بمجتمع المواطن. المجتمع الذي يعيش ويعمل ويتحرك خارج أفق الطائفة التي ينتسب إليها. لقد وجد هذا المجتمع -أي مجتمع المواطن- أنه محاطٌ بمنظومة طائفية شديدة الوطأة تحول دون دخوله منازل الوطن المرتجى. ثم سيكون عليه أن يعود القهقرى إلى كهف الماضي.. إلى كهف المجتمع السياسي التقليدي المبني على تركيبة مثلثة الأضلاع هي: الطوائف والمناطق والعائلات.
7 - زواج العلماني/ الطائفي
الشيء الذي يحيِّر كثرة من اللبنانيين ولا يملكون جواباً عليه، هو ذلك المركَّب العجيب من المساكنة بين العلماني والطائفي. فلا أحد من بين تلك الكثرة يستطيع أن يعيِّن بدقة، طبيعة ولون وماهية النظام السياسي في لبنان. فلا هو على ما يتفق الجميع، نظام طائفي صافٍ، ولا هو نظام علماني بالمعنى الذي يُفهم منه فصل الدنيا عن الدين. ولا هو بطبيعة الحال، نظام يتركَّب على مصالحة معلنة بين دين ومجتمع ودولة يبلغ الاحتدام فيما بينهم حد الانتفاء المتبادل. الحاصل في لبنان هو ضرب من المفارقة، يظهر فيها الواقع السياسي الاجتماعي وكأنه جامع المتناقضات الثلاثة. حيث تتساكن العلمانية مع الطائفية، والديني مع الدنيوي، والإيماني الأخلاقي مع الماكيافيللية السياسية وذرائعها. اعتراف علني بمثل هذا التساكن الذي بات أقرب إلى نمط الحياة اللبنانية العادية.
8 - النزاع على الهوية والتاريخ:
عندما يصل اللبنانيون في مدارج حوارهم الوطني، إلى الحديث عما يسمونه "التسوية التاريخية"، سرعان ما تنعقد حَيْرَتُهم حول سؤال هو في غاية التعقيد: من أين يبدأ تاريخ لبنان.. وكيف يُكتب هذا التاريخ على النحو الذي يكون بالنسبة إليهم معياراً لإدراك ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم؟
ولا يكاد النقاش حول هذا الإشكال يبلغ مآلاته المرجوة، حتى تعصف به ريح القطيعة، ثم ليتوقف عند حدود الجدل المستحيل. فلقد بدا تعطيل الكلام حول وجوبية الاتفاق على تاريخ موحَّد للبنانيين، أشبه بإجراء وقائي يجنِّبهم استحضار زمن مديد من المنازعات الأهلية.
9 - الطائفية بوصفها حداثة:
خلافاً للشائعة التي تُحيل الطائفية اللبنانية إلى ثقافات القرون الوسطى، ثمة من المؤرخين من ينسبها إلى الحداثة، القائلون بهذا "الانتساب" يؤيدون رأيهم بالقول: إن الطائفية هي مولود تاريخي ظهر إثر الاحتدام اللدود بين "العثمنة" في طورها الحداثي الأخير، وإمبرياليات الحداثة الأوروبية.
10 - برانية الكيان اللبناني:
إذا كانت الأسس والقواعد الطائفية قد رُسِمت وأُنشِئت وأصبحت واقعاً مُبيَّناً بدولة ومؤسسات ودستور وقوانين تحت رعاية وحماية الإرادتين الأوروبية والعثمانية.. فإنّ استمرارها لم يفارق الرعاية والتأثير الخارجيين. والذي جرى هو أن الطائفية راحت تستأنف ولاداتها بتسديد وتأييد من إرادات دولية وإقليمية تعاقبت على مدى الحقبة التي تلت الاستقلال. هذا يُفضي إلى أنّ قواعد النظام السياسي الطائفي في لبنان، لم تغادر أو تتجاوز الترتيبات التي آلت إليها خرائط المنازعات الخارجية ومؤثراتها منذ العام 1860، والى أيامنا، هذه مروراً بالسلسلة الهائلة من المنعطفات التاريخية التي شهدها القرن العشرون المنصرم. ولسوف يظهر لنا بوضوح أن الجيوستراتيجيا المعاصرة، وخصوصاً مع نشوء دولة إسرائيل في فلسطين، تعاملت مع لبنان وأزماته على القاعدة إيّاها التي تعاملت فيها معه إمبراطوريات القرن التاسع عشر.