أميركا و"القاعدة"... ضعف الغالب والمغلوب!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
عمّار علي حسن
لم تطأ أقدام جيوش الغرب أرض العراق وأفغانستان فحسب بل داست معها الكثير من أفكار وتصورات تنظيم "القاعدة"، وكذلك المطالب التي يسوقها والسلوكيات أو التحركات التي تبدر عنه. فذلك التنظيم الذي ولد من رحم ما يسمى "الجبهة العالمية لقتال اليهود والصليبيين"، أخذ على عاتقه منذ اللحظة الأولى مناهضة التواجد العسكري الأميركي في المنطقة. وطالما ظهر هذا التصور في خطب وكلمات بن لادن، قبل حدث الحادي عشر من سبتمبر، وأثناء توالي تداعياته، وفي ظل تراكم الحشود العسكرية الأميركية والبريطانية، لتقبض على العراق من زاخو إلى أم قصر، وعلى أغلب أرض أفغانستان.
وقد تبلورت ملامح هذا التوجه عقب حرب الخليج الثانية، التي انتهت بتواجد عسكري أميركي بالمنطقة، يستند إلى ذرائع بخطر العراق تارة والإرهاب تارة، ويخدم مصالح اقتصادية غربية ترتبط بضمان تدفق النفط، ويصب في استراتيجية أميركية شاملة اتضحت معالمها عقب انهيار الاتحاد السوفييتي السابق بالانفراد بقمة العالم المعاصر، وتوسيع الهوة في مجالي التسلح والنفوذ بين واشنطن ولاحقيها في الغرب والشرق، الذين أظهرت المسألة العراقية كم هم عاجزون عن الوقوف في وجه الآلة العسكرية الأميركية الجامحة.
فالعدو الذي احتشدت لمقاومته طاقات "الجهاد الإسلامي" وهو الاتحاد السوفييتي انتهت به الحال إلى الانهيار عقب الخروج الذليل من أفغانستان. وكان من الممكن بعدها أن تنفك عرى التجمع القتالي الذي خلفته حركة هجرة متتالية للشباب العربي إلى أفغانستان، بعضها تم تحت سمع وبصر الأنظمة الحاكمة وبمباركة من واشنطن وتحت إشرافها، وبعضها تم من خلف ظهر الحكومات، التي أخذت منذ مطلع عقد التسعينيات من القرن المنصرم تضيق الخناق على خروج المنضوين تحت ألوية الجماعات الإسلامية الراديكالية، وتمنع الراغبين منهم في العودة. ولكن التداعيات التي ترتبت على حرب الخليج الثانية، لفتت انتباه "إسلاميي الخارج"، خاصة من أطلق عليهم "الأفغان العرب"، فاعتقدوا أن صفحة جديدة من "الجهاد" قد فتحت، هذه المرة ضد القطب المنافس للاتحاد السوفييتي المنهار، وهو الولايات المتحدة.
وكانت حجة رفض ومناهضة التواجد العسكري الأميركي يسوقها بن لادن للشباب العربي والمسلم الذي ذهب إلى أفغانستان أو غيرها، حتى يمكن للجماعات والتنظيمات التي أسسها هؤلاء أن تستمر، بعد أن حددت لنفسها وجهة وهدفاً جديداً. وقد كانت هذه الحجة من التمكن إلى درجة أن بعض هذه التنظيمات تخلت مرحلياً أو تكتيكياً أو زاوجت بين هدفها الأصلي وهو منازلة بعض الحكومات والأنظمة القائمة وهدفها الجديد وهو قتال الأميركان.
وتوالت "الفتاوى" التي تبرر هذا التوجه، والتي دار أغلبها حول التواجد العسكري، الذي أدركته هذه التنظيمات على أنه "احتلال"، وجاءت المسألة العراقية لتراكم عليه يقيناً بهذا. ومن ثم ترجمت تلك الفتاوى إلى تحركات عملية، لتتوالى الأحداث ضد المصالح الأميركية، من قبيل تفجير مقرات عسكرية أميركية في مدينة الخبر السعودية وتفجير سفارتي الولايات المتحدة في كل من دار السلام عاصمة تنزانيا ونيروبي عاصمة كينيا، وضرب المدمرة الأميركية "كول" أثناء رسوها في ميناء عدن باليمن، وقبل ذلك منازلة القوات الأميركية في الصومال، والمساهمة في القتال إلى جانب العراقيين.
وكان تنظيم "القاعدة" يتصور أنه بمواصلة عمليات من هذا القبيل يمكن بمرور الوقت أن يبلغ هدفه الرئيسي وهو إخراج القوات الأميركية من المنطقة، خاصة بعد أن بدأ جدل يثور حول مبرر وجودها، في ظل اعتقاد البعض بتراجع التهديد الإيراني مع تحول البلاد من "الثورة" إلى "الدولة" وتنامي نفوذ التيار الإصلاحي وانفتاحه على بلدان الخليج العربي الذي أثمر عدة اتفاقات وبروتوكولات أمنية مع كل من المملكة العربية السعودية والكويت وقطر، علاوة على احتفاظ العلاقات العمانية- الإيرانية بدرجة ملموسة من التقارب، وخفوت الهواجس البحرينية حيال تدخل طهران في شؤون المنامة، وتمسك دولة الإمارات العربية المتحدة بالحل الدبلوماسي لمشكلة احتلال الجزر الثلاث (طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى) التي تحتلها إيران.
وقبل اندلاع حرب الخليج الثالثة التي انتهت بسقوط نظام صدام كان الجدل السابق قد أصبح محل أخذ ورد بين بعض حكومات دول المنطقة والإدارة الأميركية السابقة والحالية، وإن لم يخل من مواربة. وفي هذه الآونة جلبت المسألة العراقية على المنطقة المزيد من العسكريين الأميركيين. فالحرب التي انتهت بسقوط بغداد في أيدي القوات الأنجلو- أميركية في التاسع من أبريل عام 2003، أعقبت إبرام الولايات المتحدة اتفاقية "دفاع مشترك" مع قطر، وإنزال قوات بالكويت، ثم احتلال العراق، الأمر الذي قد يعني تواجداً عسكرياً أميركياً لأجل غير محدد بالمنطقة، على رغم الضغوط الشديدة التي تتعرض لها القوات الأميركية على أرض الرافدين والتي أجبرتها على التفكير في "إعادة الانتشار" أو "الانسحاب التدريجي".
وتزامن هذا مع أفول نجم تنظيم "القاعدة" بفعل الضربات الأميركية المتلاحقة له، عسكرياً على أرض أفغانستان، وأمنياً وإعلامياً على كل الأراضي، ما يعني إلحاق هزيمة جديدة بهذا التنظيم، الذي كان يحلم بإجبار الولايات المتحدة على سحب قواتها من الخليج العربي، فإذا بالأحوال تنزلق إلى تعزز تواجد هذه القوات، بينما يلعق هو جراحه في كهوف أفغانستان وغيرها، دون أن يفقد الأمل، ما دامت قيادته حية وأيديولوجيته في أذهان أتباعه، في أن يوقظ يوماً ما "خلاياه النائمة"، ليعود من جديد إلى مطالبة الأميركان ليس بسحب قواتهم من الخليج فحسب، بل بإنهاء احتلال العراق أيضاً، وهذه مسألة باتت واشنطن نفسها تدركها، أو على الأقل أصبح فريق من السياسيين والعسكريين الأميركيين يعتقد في صوابها، ويطالب الإدارة بأن تتصرف على أساس أن القوة المفرطة لن تقضي على "الإرهاب الدولي"، وأن استئصال "القاعدة" وغيرها من التنظيمات الأصولية المسلحة ليست بالسهولة التي كان يتصورها المحافظون الجدد.