الغلو والتطرف أو نهاية السياسة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
عبد الاله بلقزيز
ضحايا حركات التطرف والغلو من الجماعات الإسلامية كثيرون في البلاد العربية والإسلامية: الدولة ldquo;العلمانيةrdquo; أو الآخذة ببعض التشريع الوضعي في شؤون السياسة والاقتصاد والتجارة والمال، المرأة وحقوقها المدنية والسياسية، الاستقرار الاجتماعي والسلم الأهلي، بيئات الحداثة في المجتمعين السياسي والثقافي، الاستثمار الوطني والأجنبي، صورة المجتمع والدولة في العالم الخارجي وتبعاتها الكالحة، صورة الإسلام في الداخل والخارج . . الخ . لا عجب، إذن، إن التأم جمع اعتراضي عرمرم ضد حركات التطرف والغلو تلك في الداخل العربي والإسلامي بين قوى لا مجال للتشكيك في استقلالية أفكارها وخياراتها عن السياسات الأجنبية: جنباً إلى جنب - ومن دون تحالف - مع قوى أخرى داخلية لا يحرجها أن تتصل أسباب الصلة بينها وبين تلك السياسات الأجنبية .
لعل حركات التطرف والغلو تلك لا تدري مقدار ما ساهمت به في إحداث استقطابات سياسية جديدة في المجتمع العربي المعاصر ونظيره من المجتمعات التي تدين شعوبها بالإسلام . ولعل المجتمع إياه كما نظائره الإسلامية كان في غنى عن مثل هذه الاستقطابات التي تحرفه عن تناقضاته وأزماته الحقيقية . فلقد كان عليه منذ عقود طويلة أن يتفرغ للنضال ضد مواريث الحقبة الكولونيالية، وضد التبعية، والاستغلال الطبقي، والاحتلال الأجنبي، والتجزئة الكيانية، والفقر والتهميش والأمية، والفوارق الطبقية الفاحشة والاستبداد، وكان عليه في الأثناء ان يتميز الأعداء من الخصوم من الأصدقاء، وأن يتميز رئيسي التناقضات من ثانوييها . ثم لم يلبث قيام حركات التطرف والغلو وانتشارها وانغماسها في أفعال العنف الأعشى، وتطويحها بالسلم المدني، وازهاقها أرواح الأبرياء، وتخريبها الاقتصاد وأرزاق الناس من طريق ضرب مرافق السياحة واخافة الاستثمار الخارجي، ومساهمتها العظيمة في تقييد الحريات العامة وحقوق الإنسان باسم قوانين مكافحة الارهاب، وسعيها غير المشكور في اخراج أجهزة الأمن من مخادعها، إلى الحياة العامة ورفع منسوب قيمتها في كيان السلطة، لم يلبث ذلك كله ان فرض موضوعياً خريطة تناقضات جديدة أعادت مطالب مجتمعاتنا إلى الوراء بعقود، بل إلى الحدود البدائية التي يخجل أي واحد منا أن يصبح من حملتها .
لو ألقينا نظرة سريعة على طيف المطالب والمواقف الذي يرسم لوحة السياسة اليوم، في أعقاب قيام تلك الحركات، لتبينا إلى أي حد من التردي والانحدار أوصلتنا إليه أفعالها الخرقاء:
الذين كانوا يترددون على السجون في زيارات قسرية تنظمها لهم قوى القمع في منتجعاتهاrdquo; لترويض عقولهم ونفوسهم وأجسادهم على التبطل والخمول، والذين هم كانوا يناضلون لافتكاك مجتمعاتهم من الاستبداد، ومن أجل توسعة نطاق الحقوق المدنية والسياسية وفتح الطريق أمام الانتقال الديمقراطي، باتوا يشعرون تحت وطأة حماقات قوى الفتنة المنفلتة أفعالا من كل عقال بالحاجة إلى صون الأمن الاجتماعي والسياسي من عبث قوى الجهالة الجهلاء التي تأخذ مجتمعاتها الى الانتحار الجماعي من طريق إشعال فتنة داخلية . لقد ألفوا أنفسهم يتقاطعون من دون مشيئة منهم وعلى شديد مضض مع الفكرة الأمنية التي كانوا هم في جملة أظهر ضحاياها من دون خلق الله جميعاً .
والذين ناضلوا لعقود مديدة من أجل الخبز والعدالة الاجتماعية وصون حقوق الكادحين والفقراء والمهمشين ضد الاستغلال الطبقي الوحشي لقوى الرأسمال، ما لبثوا أن حملوا حملاً على إعادة وعي موقعية مطالب الحقوق الاجتماعية للناس (في وجه الرأسمال والاستغلال وسوء توزيع الثروة) داخل نطاق حق أعم (أفقي) يجمع بين المالك والمحروم، السيد والمملوك، الغني والفقير، المستغل والمستغل، هو الحق في الحياة: الحق الذي لم تهبه فيالق الموت للناس حتى تصادره منهم . لم يتخل المناضلون أولاء عن برنامج نضالهم الاجتماعي، لكنهم دفعوا دفعاً إلى المطالبة بحقوق بدائية وطبيعية يكافح من أجلها كل كائن حي . والمرأة التي كافحت وكابدت من أجل تحصيل حقوقها المدنية والسياسية أسوة بالرجل في وطنها أو بالمرأة في مجتمعات المواطنة الكاملة، والتي ما وفرت مناسبة للطعن في ذكورية القوانين والتشريعات والقيم أو للاحتجاج على دونية أوضاعها في المجتمع والدولة . .، بات ldquo;يكفيهاrdquo; اليوم على مضض أن تدافع عن النزر اليسير مما لديها من حقوق بعد أن تهددته عاصفة اقتلاع باسم الدين من جماعات لا ترى من حق للمرأة سوى المرابطة في البيت والانجاب وتربية الأولاد والانقطاع للأهل والزوج .
وبالجملة، ألفينا أنفسنا فجأة أمام جدول أعمال جديد أخذنا إليه على حين غرة . جدول أعمال مختلف عما عهدناه منذ الحقبة الكولونيالية، بل منذ عهد الإصلاح الإسلامي في القرن التاسع عشر . زوّره من دخل فجأة على خط السياسة من دون استئهال ومن غير علم بالسياسة ومفردات السياسة . إن شئنا الدقة في وصف حالنا اليوم مع هذا الثوران المخيف من التطرف والغلو قلنا بأمين اختصار في التعيين: خرجنا من عصر السياسة بعد إذ قتلنا السياسة وأعدمنا شروطها، ولا حول ولا قوة إلا بالله .