الصراع الفكري بين الأمس واليوم
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
العجمي الوريمي
إن السمة البارزة لحياتنا المعاصرة هي التنوع، ويقيس البعض درجة تطور النظام السياسي بمقدار ما يسمح به من التنوع، ولكن التنوع ليس ظاهرة حديثة بل هو ظاهرة ملازمة للوجود الإنساني ولمحيط ذلك الوجود، وكما أن الإنسان مستأمن على أخيه الإنسان وعلى البيئة التي فيها ينشأ وينمو ويعيش فإنه حينما يسيء التفكير والتدبير يتحول إلى خطر على الوجود الاجتماعي والطبيعي أي خطر على التنوع.
كان المحيط الطبيعي قاسياً على الإنسان وكان هذا الأخير ضعيفا أمام الظواهر الكونية عاجزا تجاهها خائفا مما تخفيه ولا يحيط به علمه المحدود فأصبح الإنسان قاسيا على الحياة بعوالمها المختلفة بمقدار ما بلغه علمه وما بلغته سيطرته التي لا يريد لها سقفا ولا حدا ولا منازعا أو شريكا. وتكمن المفارقة في أن الإنسان كلما ازدادت سيطرته على ما حوله فقد السيطرة على نفسه، ربما لأن مثال البناء عنده مثال للهدم أيضاً ومنزع المعرفة لديه مختلط بمنزع الهيمنة، ولأن حرب الكل ضد الكل قد تذهب بكل المنجز الإنساني وتؤدي إلى خراب ليس بعده حضارة ولا بناء أيقن الإنسان أن من دواعي استمراره واستبقاء سيادته ورفاهيته كبح جماح الذئبية فيه خاصة وقد تبين أن الإنسان خارج توجيه الوحي وهدي النبوات لا يكون فقط ذئبا لأخيه الإنسان وإنما داخل كل فرد قطيع من الذئاب. وأول ضحايا الذئبية البشرية الضعيف والمرأة والغريب والأقليّ وذو الحاجة الخصوصية.. لذلك كانت الحضارات القديمة ضد التنوع تمنعه وتسيطر عليه بالإخضاع والإكراه والغزو والإقصاء وكانت أرض الله واسعة يهاجر فيها المستضعفون للاحتماء بالعادلين إن وُجدوا أو لتأسيس مدنيات جديدة انطلاقا من جماعات صغيرة تجمعها الرحم والكرامة ورفض الظلم وإيثار التيه والترحال والضرب في الأرض والإقامة في المضارب الصعبة على الخضوع والرضوخ للمستغلين والمستكبرين.
ثم كان طور لعله العهد الإسلامي استقرت فيه مع الفتوحات وتوسع مساحة دولة الفكرة آليةٌ لضمان التنوع وحماية الأقليات عُرفت بمفهوم الذمة وهو الذي تسيرُ عليه اليوم معدَّلاً بعض الشيء النظمُ التي تحمي الأقليات وتمنحها أكبر قدر ممكن من الحقوق والحريات، ولكن مثلما تغير النظام العالمي تغيرت معه وضعية الأقليات فوُجدت الأقلية الكبيرة والأقلية المسندة بغالبية خارج الإقليم أي الأقلية الدينية داخل مجتمع تنتمي إليه بالإقامة ولا تمثل فيه إلا جزءا يسيرا لكنها تنتسب بالثقافة أو بالديانة إلى أمة تمثل ربع البشرية أو يزيد. وإذا كان الإسلام زمن انتصاراته وريادته قد أوجد وضعا متميزا لأصحاب الديانات الأخرى خاصة من يعتبرهم أهل كتاب، فإن المجتمعات الغربية والديمقراطيات الحديثة ما تزال تبحث عن الصيغ التي تعطي بعض الحقوق للمسلمين داخلها دون أن يؤدي ذلك إلى استقوائهم أو تأثيرهم في نمط حياة وتركيبة تلك المجتمعات. وإذا كان الفقهاء وعلماء الدين المسلمين لم يجدوا صعوبة على مر التاريخ الإسلامي في تقديم تصور لترتيب أوضاع غير المسلمين في المجتمعات الإسلامية فإنهم ونحن في الألفية الثالثة لا يزالون بصدد البحث من زاوية الرؤية الإسلامية عن تصور لأفضل وضعية ممكنة شرعيا وواقعيا للأقليات الإسلامية داخل مجتمعات غربية تتفق من حيث الخلفية الدينية والقيم المرجعية وتختلف من حيث القوانين والتشريعات المتعلقة بحقوق الأقلية خاصة الإسلامية وهي تتراوح بين التشدد والتساهل يحكمها في ذلك إرث ديني وأزمة مجتمعية ومخاوف ناشئة عن أوضاع عالمية من صراعات وحروب وتنام للوعي الديني والظاهرة التطرفية مقابل هيمنة غربية وغطرسة صهيونية..
وقد كانت حادثة 11 سبتمبر ذروة أحداث القرن الجديد انكشف بعدها المستور وتعرضت قيم الحداثة إلى امتحان عسير ومعها تعرض الوجود الإسلامي في الغرب إلى خطر عميم. ورغم أن هذا الخطر قد طُويت صفحته بفعل جهود النخب الإسلامية الواعية والقيادات المستنيرة وبإحساس المسلم العادي بالمسؤولية تجاه الجماعة والمجتمع وتجاه صورة الإسلام المعرضة للتشويه، رغم ذلك فإن جهات عديدة ما تنفك تمارس التخويف والتحريض من أجل الدفع نحو مزيد من التضييق على المسلمين في الغرب وسحب المكتسبات التي تحصلوا عليها، ومن بين هذه الجهات مراكز بحث ودراسات موالية لإسرائيل تثير حفيظتها النجاحات التي ما تنفك تحققها الجاليات والهيئات الإسلامية في أوروبا وأميركا والتي تخشى أن تتحول إلى داعم للقضايا العربية ولقضية فلسطين بصفة خاصة بما يؤثر في الرأي العام الغربي وفي وجهة الصراع العربي الصهيوني. وتحاول هذه الدوائر بشتى الطرق أن تشكك في مصداقية الخطاب الإسلامي الذي يتصدى لأوضاع المسلمين في الغرب من أجل إيجاد جسر للتواصل الوثيق بينهم وبين مجتمعات الاستقبال وبما ييسر اندماجهم مع حفاظهم على خصوصياتهم. وترى هذه الدوائر البحثية ومنها على سبيل المثال "مرصد العالم اليهودي" أن المسلمين المهاجرين وأبناءهم من الجيل الثاني والثالث يستغلون ميزات النظام الديمقراطي لخدمة أهدافهم التي ترمي إلى أسلمة المجتمعات الغربية عن طريق الدعوة بعد أن ولّى زمن الفتوحات، وهي تشكك في أن إعطاء المزيد من الحقوق للمسلمين سيؤدي إلى دمقرطة الإسلام وإنما إلى أسلمة الحداثة، وتضع هذه الدوائر في مرمى سهامها مفكرين إسلاميين معاصرين يلقى خطابهم قبولا ورواجا لدى الشباب الإسلامي ولدى وسائل الإعلام في أوروبا وأميركا وهو يسهم في إيجاد الحلول وفتح الآفاق للعلاقات الواعدة والصعبة في الوقت نفسه بين الجاليات الإسلامية ومحيطها المجتمعي. ومن بين هؤلاء المفكرين حفيد الإمام البنا طارق رمضان والمفكر الإسلامي طه جابر العلواني المختص في فقه الأقليات.
جاء في إحدى كراسات المرصد اليهودي تحت عنوان "خطاب الإسلام الراديكالي: مواطنة، ديمقراطية وغرب" تعليقاً على التحدي الذي يمثله الوضع غير المسبوق للمسلمين كأقلية: "في مواجهة هذا التحدي يعرف التوجه الإسلامي في جزئه الأكثر حركية دوائر عديدة، وتمارس الدائرة الأكثر اتصالا بالديمقراطية الغربية خطابا مزدوجا محاولة صوغ أهدافها السياسية بواسطة التعابير التي حولها أوسع إجماع من الفلسفة السياسية الراهنة (المواطنة الديمقراطية)".
ويقدر المرصد اليهودي أن المدرسة الاستشراقية الإسرائيلية في الموقع المناسب لإنارة أوروبا باعتبارها الدائرة الثانية التي يتحرك ضمنها التيار الأصولي الشرق أوسطي، فالأوروبيون -حسب رأيه- أقل دراية بخفايا العالم الداخلي للإسلاميين وبما يبطنونه من أهداف وما يخفيه خطابهم المعتدل والمرن من مقاصد.
إن وضع مفكرين إسلاميين معاصرين وعلماء معتدلين من أمثال طارق رمضان وطه جابر العلواني والشيخ يوسف القرضاوي في مرمى النيران الحاقدة يذكرنا بما تحدث عنه مالك بن نبي في كتابه "الصراع الفكري في البلاد المستعمرة" إذ إن الاستعمار لكي يضرب فكرة ما يعمد إلى تشويه واستهداف حامليها. فما نشهده اليوم طور جديد من استهداف الفكرة الإسلامية من خلال الحملات التشكيكية في قادة وأئمة الفكر المعبرين عن الصحوة الذين تتسع دائرة تأثيرهم مشرقا ومغربا وصاروا يمثلون مُحاورا جديا يُستفتى ويُرجع إليه في أمهات القضايا.