عندما لا ينتج الخطاب الديني خطاباً متشدداً
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
أحمد حسين
التراث الحقوقي هو أساس الحضارة الإسلامية، وقد وجد بتحديد مقنن واضح في دولة الإمام علي بن ابي طالب، إذ إن المسلمين مروا بثلاث تجارب كانت لها آثارها الواضحة على الواقع السياسي للمسلمين، بل على حركة مبادئ المواطنة وهي:
1 - احترام التعددية والاعتراف بالآخر.
2 - احترام حرية الاعتقاد وقبول الآخر.
3 - احترام حق الإنسان في المشاركة السياسية.
4 - احترام مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات.
5 - احترام كرامة الإنسان وحفظ هويته الخاصة.
و قد قام الإمام علي حينما استلم زمام الأمر في الدولة بتكريس هذه المبادئ، وغرس الاهتمام بها لدى الراعي والرعية من أفراد المجتمع.. بل لقد نجح عليه السلام في تحويل الدولة من دولة جابية إلى دولة راعية تسعى للرخاء والرفاه الاجتماعي وتحقق السلم الأهلي في هذا المجتمع. كما حدث في زمانه أن تحول الحاكم من مستبد ذي سلطة إلى راع ذي رسالة نبيلة حقيقية.. كما أصبح الأفراد مواطنين واعين بحقوقهم وواجباتهم.
و لعل من أفضل النصوص الصحيحة التي توضح هذا البعد، هو عهد الإمام علي (ع) إلى مالك الأشتر حينما ولاّه على مصر وأعمالها. وعلى الرغم من أن مصر كانت آنذاك مضطربة، فقد رسخ الإمام في هذا العهد مفاهيم حقوقية راقية وغير مسبوقة، ما يؤكد أن الاضطراب يعالج بالمزيد من تنظيم الحريات دون قيد، ولا يعالج بتدوير المشاكل وتأجيل الحلول كما نراه من بعض ساسة اليوم في أنحاء العالم كافة.
ومعالم هذا العهد الحقوقي الكبير تتجلى في الآتي:
1 - تحديد مفهوم الولاية أو الحكومة ودورها وذلك في الآتي:
bull; جبوة الخراج: وهي تعني إنشاء اقتصاد قوي للدولة والاهتمام بالجباية صورة من صور تدبير الموارد الاقتصادية للدولة.
bull; جهاد العدو: وتعني الحفاظ على سلامة أراضي الدولة من أي اعتداء وبذل الجهد في ردع أي عدوان عليها وعلى مواطنيها.
bull; استصلاح أهلها: وأفهمه أنا على أنه إصلاح العلاقة بين المواطنين والدولة بتكريس حقوقهم وتعليمهم واجباتهم ومسؤولياتهم الوطنية التي تنبع من المرجعية السياسية والأخلاقية النهائية وهي القرآن والمنظومة التشريعية الدينية.
bull; عمارة البلاد: وهو ما نعبر عنه اليوم بالتنمية المستدامة التي تسعى لتحقيق الازدهار وتشييد دولة الرفاه الاجتماعي للمواطنين.
2 - الاستناد إلى المرجعية النهائية وتذكير الولاة الحكام والمواطنين بأن دولة الإمام علي (ع) دولة مدنية، ولكنها ذات مرجعية قيمية نهائية مثل المنظومة التشريعية والأخلاقية، والتي كانت أساس الحكم وكانت مدخلا لمحاربة الفساد، حيث إنها أسرع شيء لصاحب السلطة والنفوذ سواء كان من الحاكم أم من أعوانه.
3 - ضرورة قيام الحكم الرشيد على دراسة جيو/سياسية محددة وواضحة المعالم بهدف معرفة خصائص البلاد وطبائع أهلها لكي يتم التعامل معهم على النحو الذي يحقق لهم الاستقرار، ويحقق للحاكم الأمان والحكم المستقر المنتج. ولقد أشار الإمام (ع) إلى ذلك إذ إنه قد ذكر لمالك أن البلاد التي ولي عليها قد جرت عليها دول قبله من دول عدل ودول جور، وأنه ينبغي استقراء التجارب ليتم تحديد الأسلوب الأمثل في الحكم والتولي.
4 - يرسي الإمام علي (ع) قاعدة أساسية في الحكم، وهي مراعاة الحاكم لمشاعر المواطنين واحترامها ولاسيما بعدما تعرضوا له في عهود سابقة من ظلم وإجحاف، وهذا يدل على أن المبادرة واجبة على الحاكم وأجهزته لكي يوفر المناخ الأمثل الذي يستطيع من خلاله الإنسان أن يمارس مواطنته حقوقا وواجبات بكل ابتهاج وارتياح، ومبادرتها تعني ألا تترك الأمور للفوضى، بل لا بد أن تنظمها مؤسسات الدولة.
5 - يقول (ع): "وإن الناس ينظرون من أمورك مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم".. وهذا يعني أن عين الحاكم يجب أن ترقب أداءه، لأن هناك رقابة شعبية حادة لا بد من التعامل معها بشكل إيجابي، لا الانسياق وراءها والرضوخ لفوضويتها. ولذلك فإن العلاقة المتبادلة بين الدولة أو الحكومة وبين الشعب أو المجتمع يجب أن تتفاعل على أساس واضح إلا أن المبادرة تكون للدولة.
6 - من أهم مهام الحاكم القضاء على الفساد والالتزام بالعمل الصالح النافع للناس، وهذا ما تقتضيه المرجعية النهائية التي تلتزم بها الدولة. وهذا يؤكد أن دولة الإمام علي لم تكن دولة دينية تنطلق من آيديولوجيا أو عقيدة بقدر ما هي دولة ذات مرجعية أخلاقية. أما العقيدة الخاصة بالحاكم أو أجهزته، فإنها لا تشكل أساسا في الحكم.. هذا أولا.. ثانيا إن مفهوم العمل الصالح الذي يصدر من الحاكم ينطبق على الرعاية التي هي عبارة عن الرحمة في التعامل والصدق واللطف والإحسان للمواطنين، بمعنى حفظ حقوقهم وتوفير الحياة الكريمة وأسبابها وعدم الإجحاف بالمواطنين، إذ يقول "ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا".
7 -هناك تصنيفات تتم على أرض الواقع للمواطنين، بعضها يقوم على رؤية سلبية وبعضها على رؤية إيجابية، ويصنف الإمام علي (ع) الرعية "وهي كلمة تحمل معاني حرمة المواطن وصون كرامته ولا تعني ما قد يفسره البعض انطلاقا من ممارسات تاريخية خاطئة". فالرعية (إما أخ لك في الدين) ولم يقل الإسلام، بل الدين هنا على عمومه، لأن خطابه لمالك يدخل فيه الناس من جميع الديانات ممن يعيش في دولة الإسلام. والأخوة في الدين لا تعني تعصبا للدين، بل إنها تؤكد تحديد الموقف تجاه حقوق الآخرين. ولذلك أراد أن يغلق الباب على من يتعصب لدين، أو عقيدة، بأن يوسع نظرته للأخوة، بحيث تشمل الأخوة في الإنسانية، فانه إما أخ لك في الدين أو "نظير لك في الخلق".. وهذا التصنيف عقلي طبيعي لا تنال منه الأهواء، ولا تؤثر فيه التعصبات.. فكلاهما أخ ومواطن له حقوقه التي يجب أن تحترم.. وأعتقد أنه إذا التزمنا بكلام الإمام، فإنه لا يمكن للانتماء الديني ان ينتج عندئذ أي خطاب متشدد، أو أي إثنية متطرفة.