قضية المرأة العربية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
عبدالجليل المرهون
تبرز قضية المرأة باعتبارها قضية معيارية يصعب بناء مقاربة موحدة، أو مجمَع عليها بشأنها، وعلى الرغم من ذلك، ثمة ما يبدو مقبولاً بوجه عام متى كان ذلك قريباً من الفطرة البشرية التي جُبل الناس عليها
هناك مدارس وقراءات مختلفة لدور المرأة في عالمنا المعاصر.وهناك حديث لا ينتهي عن حقوقها الخاصة والعامة.وتضم المعمورة اليوم عشرات الآلاف من المنظمات والجمعيات النسوية، التي يتجاوز بعضها الحدود الوطنية لينشط إقليمياً ودولياً.
وفي الغالب، تبدو هموم هذه المنظمات متشابهة أو متماثلة.وهي تدور حول المساواة في الحقوق المدنية والسياسية، والعلاقة القائمة بين الجنسين.وموقع المرأة في الأسرة، وقضايا الصحة الإنجابيةو ما إلى ذلك.
في الوطن العربي، لم تحسم بعد الكثير من المقولات الخاصة بالمرأة وموقعها في المجتمع، وحدود دورها في التنمية الاجتماعية والسياسية.وتجد هذه المسألة خلفياتها الأبعد مدى في إشكالية المنظور العربي للحداثة، وعلاقتها بالدين والتراث.وهنا، بدت أزمة المرأة العربية باعتبارها جزءا من أزمة المجتمع العربي ذاته.
ومنذ أواخر القرن التاسع عشر- كحد أدنى - انشطر الناشطون العرب إلى تيارين متباينين على صعيد الرؤية الخاصة للمرأة، ودورها في الأسرة والمجتمع والحياة العامة.
قاد التيار الأول بعض الرجال والنسوة ممن تأثروا بحركة تحرير المرأة في أوروبا، وخاصة فرنسا.وشهدت المكتبات العربية سيلاً من الكتب التي تدعو ضمناً أو صراحة إلى السير خلف الركب الأوروبي، ولاحقاً الغربي عامة.
وقد استفاد هذا التيار من تردي ظروف المرأة العربية ليبرر دعوته للانقلاب على الواقع الثقافي والاجتماعي السائد.ولم تجر محاولات منهجية لتصحيح أخطاء بذاتها، بل تم التحريض على كل ما هو قائم، ونعته بالتزمت والتخلف.
لم تكن ثمة بدايات صائبة، تستهدف التركيز على قضايا جوهرية من قبيل تعليم المرأة، وتنمية ثقافتها العامة، وابتكار سبل كفيلة بتحسين ظروفها الحياتية.
لقد انصبت باكورة نشاط دعاة النهضة النسوية العربية على التصدي للتقاليد المتعلقة بلباس المرأة وعاداتها الاجتماعية.وهنا حدث الاصطدام المدوي والعنيف بالمجتمع، إذ نُظر إلى هذا المسعى باعتباره تصديا للدين ذاته.
وبطبيعة الحال، قد يختلف المؤرخون في تقييم حقبة البدايات الأولى "لمعركة" المرأة العربية، إلا أن المسارات اللاحقة ظلت هي الأخرى أسيرة الاصطدام بالواقع القائم، وإن بدت أقل غلواً.
في المقابل، بدأ تيار "التأصيل" معنياً بالدفاع عن نفسه، وتبرير استمرار حالة الوهن التي تعيشها المرأة العربية، أو المرأة المسلمة في المجمل.
لم يكن بمقدور أحد الدفاع عن تفشي الأمية، أو العزوف عن التعليم، وسط أمة حث دينها على القراءة، وطلب العلم ولو في الصين.ولم يخرج بين علماء الأمة من يدعي حصر العلم في الرجال دون النساء.
لماذا إذاً ساد واقع سهّل على الآخرين وصفه بالمتخلف؟
نسب رواد "النهضة الإسلامية" - وهذا مصطلح ذاع صيته أواخر القرن التاسع عشر - تخلف المرأة إلى "ابتعاد الأمة عن الدين، وتكالب قوى الهيمنة، وتردي الأحوال الاقتصادية".
وزخرت المكتبة العربية بعدد لا يحصى من الكتب التي ربطت بين تطوّر المرأة و"العودة" إلى الدين.
وعلى الرغم من ذلك، لم يكن من السهل على المقاربات التأصيلية تحديد مواقف صريحة من التقاليد والأعراف الاجتماعية، التي تشكلت في اتجاهين متقابلين:
الأول: ما يمكن وصفه بانفتاح الأمر الواقع، السائد في الضيّع والأرياف، حيث تنهض المرأة بدور محوري في الزراعة والحصاد.
والثاني: استبعاد مبالغ فيه للمرأة في حياة الحواضر - التي بدت يوماً في نسختها العربية حواضر ذكورية، لا دور للنساء فيها.
وفي وقت لاحق، لم يكن من السهل أيضاً إعطاء تصوّرات نهائية لحدود العلاقة بين الدين والحداثة، سواء في نقاشات العقود الأولى من القرن العشرين، أو في النقاشات التالية.وصولاً إلى السجال الدائر حول العولمة، وتداعياتها على منظومة القيم الاجتماعية.
وفي غمرة هذا السجال، الذي ما برح قائماً، يبدو من الضرورة التأكيد على الأمور التالية، فيما يرتبط بالمرأة العربية وموقعها في الحياة المدنية والسياسية:
أولاً: إن الوصول إلى مقاربة متوازنة لما بات يعرف بقضية المرأة يستوجب حداً أدنى من المصالحة العربية بين الحداثة والتقاليد، على نحو لا يهيمن أحدهما على الآخر؛ فالحداثة مفهوم نسبي لا يجوز الارتكاز إليه إلا في حدود ما يخدم الإنسان، ويعزز من قدراته، ويصون كرامته، ولا يصطدم مع سجيته التي فُطرَ عليها.
ثانياً: لا يجوز النظر إلى التقاليد والأعراف باعتبارها تعبيراً رديفاً للدين، أو مكملة له فالدين هو ما جاء به القرآن الكريم، وما ورد في الأحاديث الشريفة عبر الرواة الثقاة.وهو تام وكامل لا اعوجاج فيه.ولا يحتاج لمن يضيف عليه.
أما العرف فهو ما تعارف الناس عليه وتواضعوا. وهو لا يلزم الإنسان إلا في حدود المصلحة العامة المجمع عليها.ولا يصح تعميم العرف خارج رقعته الجغرافية التي تبلور فيها، ولا إعطاؤه بُعداً قومياً أو إقليمياً.كما لا يجوز، بحال من الأحوال، أن يطغى العرف على الدين أو يُعقد أحكامه، بعد أن يسرها الله تعالى.
ونحن في الوطن العربي، على وجه التحديد، لدينا اليوم قدراً كبيراً من الخلط العشوائي بين الدين والعرف، إلى درجة يصعب فيها على البعض التمييز بينهما.وعلى الرغم من أن هذه المنطقة من العالم قد شهدت تحولات اقتصادية، انعكست على نحو حاد على منظومة السلوك والقيم، إلا أن الأعراف ذات الصلة بالنظرة إلى المرأة لم تتغيّر كثيراً.وهذه إحدى مفارقات مجتمعنا العربي.
ثالثاً: إن النظر إلى تطوير المرأة العربية باعتباره عملية إحلال لمنظومة قيم حضارية وإزاحة أخرى، يُعد انتهاكاً صريحاً لخصوصيات هذه المرأة، وتعدياً لا جدال فيه على حقوقها الثقافية والدينية.
إن هذا المنظور للتطوير أو التحديث يمثل إحدى الغوايات الكبرى المضللة.وهو يعبر عن انفصام حضاري ضار ومدمر.
رابعاً: إن المطلوب، بالدرجة الأولى، هو تطوير للمقومات المادية للنهوض النسوي، مثل التعليم والتدريب المهني والفني، وتوفير فرص العمل، وتمويل المشاريع الإنتاجية الصغيرة، التي تمكّن النساء من تعزيز فرص العيش الكريم.
خامساً: هناك حاجة لعمل مؤسسي للتطوير الفكري والمهني للمرأة العربية، قادر على استيعاب الكم الكبير من متغيّرات البيئة الدولية في عصر العولمة والقرية الكونية. على أن يتجه هذا العمل أفقياً ليستوعب كافة شرائح المرأة العربية، وفئاتها العمرية، ومناطق تواجدها في المدن والأرياف.
ونوعياً، فإن العمل النسوي العربي معني بتحديد أولويات واقعية، تنسجم مع خصوصية المجتمع وبنيته النفسية والحضارية.وعليه اعتماد آليات عصرية متطوّرة وذات جدارة، قادرة على التفاعل مع الأنماط الجديدة من اهتمامات المرأة، وخاصة الفئات العمرية الشابة.
سادساً: إن نيل المرأة العربية حقوقها لا يتأتى دون السعي الجاد إلى دمجها في الحياة العامة، وتأكيد دورها في قيادة المجتمع، ومساهمتها في بناء سلّم أولوياته الوطنية والقومية.
وختاماً، فإن أية أمة تصبو لتبوء مكانة لائقة في هذا العالم لابد لها أولاً من المصالحة مع ذاتها.وفي المقدمة من ذلك، تأكيد نظرتها إلى المرأة باعتبارها نصف المجتمع.