جريدة الجرائد

صفعة إيقاظ لـ «أوباما»

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

عبدالله حميدالدين


"إهانة"! هكذا وسمت الإدارة الأميركية إعلان وزارة داخلية إسرائيل عن بنائها 1600 وحدة سكنية في القدس، لأنه تزامن مع زيارة نائب الرئيس الأميركي بايدن، وقد اعتذر نتنياهو عن هذا التوقيت غير الملائم ولكن لم يعتذر عن القرار ولن يوقفه، وقطعاً لم تكن الخطوة غير مقصودة بل كانت مقصودة بامتياز؛ فإسرائيل تعلم أن غاية ما سينتج من هذا هو بعض التوتر الديبلوماسي الذي لن يتطور إلى توتر في العلاقات السياسية والاستراتيجية، فالأخيرتان قائمتان على حقائق مادية راسخة لا يمكن التفريط بها حتى لو كان في الأمر إهانة، وفعلاً، فخلال أيام تغيرت نبرة وزيرة الخارجية الأميركية وخففت من حدتها وستعود الأمور إلى ما كانت عليه.

إسرائيل خبيرة ومرجع في نظريات اللعبة التي وظيفتها الأساسية التنبؤ باختيارات الغير، وهي خبيرة أيضاً في الاستفزاز الذي يهدف إلى خلق رد فعل لدى الغير؛ لذلك فإنها عملت ما عملت، ولها غرض: إنها تقضي على ما بقي من الثقة بقدرة الإدارة الحالية في إحداث سلام، كما أنها تقلل من الآمال المعقودة على اللوبي اليهودي الجديد "جاي ستريت" الذي يؤمن جدياً بالسلام، ربما تحرج وإسرائيل الولايات المتحدة بهذا الشكل لأنها ساخطة من عجز الإدارة الأميركية إزاء السلاح النووي الإيراني، السلاح الذي تعده الدولة العبرية تهديداً وجودياً، ولكن وراء الإهانة الإسرائيلية أمراً آخر.

السلام الشامل من وجهة النظر الإسرائيلية قائم على أمرين: ثمن السلام، وتغيير المعادلة الأمنية الإقليمية، معظم الجدل الذي نسمعه هو عن الثمن الذي على إسرائيل تقديمه في مقابل السلام، وفي هذا السياق تأتي عروض الأرض في مقابل السلام المختلفة، ولكن من وجهة نظر إسرائيل، فيستحيل تحقيق سلام شامل ما لم يتم تغيير المعادلة الأمنية الإقليمية حتى لو لم يطلب منها تقديم أي شيء؛ فإسرائيل ترى أن المعادلة القائمة تهدد وجود إسرائيل، وفي مؤتمر مدريد كان أحد شروط إسرائيل الأساسية معالجة هذه المعادلة، في تلك الفترة من خلال معالجة قضية الأسلحة التقليدية وغير التقليدية العربية والإيرانية، اليوم يبقى هذا الشرط مطروحاً، ولكن الواقع الأمني صار أكثر تعقيداً، ولغير مصلحة إسرائيل، والاختلاف الذي نراه بين الولايات المتحدة وبين إسرائيل ليس موضوعه ثمن السلام الشامل، وإنما القدرة على تغيير المعادلة الأمنية، والأخير لا علاقة له بالثمن مطلقاً، فالاختلافات كلها حول الأرض واللاجئين والقدس ثانوية تماماً، وجوهر الاختلاف يتلخص في سؤال: هل يمكن تغيير المعادلة الأمنية الحالية؟ ومتى؟

الاستراتيجيون في الولايات المتحدة يتفقون على التهديد الوجودي القائم على إسرائيل، ولكن يختلفون في القدرة على تغييرها والمدى الزمني لذلك، بعض الاستراتيجيين يرون أنه يمكن تغيير المعادلة الأمنية في المنطقة لمصلحة إسرائيل خلال جيل أو جيلين، وبالتالي يلحون على إسرائيل لاتخاذ خطوات جادة لتحقيق التقدم نحو معادلة جديدة، ويرون أن أي تأخر أو خطأ هو خطوة إلى الوراء، والاختلاف اليوم بين الولايات المتحدة وبين إسرائيل يمكن النظر إليه من هذه الزاوية: أوباما يرى أنه يمكن تغيير المنطقة لمصلحة إسرائيل، ويرى أن مشكلة إسرائيل هي عجزها عن إدراك ذلك.

في المقابل هناك استراتيجيون في الولايات المتحدة يرون استحالة تغيير تلك المعادلة إلا بعد أجيال عدة، ولكن مع ذلك يطلبون من إسرائيل اتخاذ خطوات لتنفيس الاحتقانات ولتفكيك التحالفات الممكنة؛ ويمكن النظر إلى اتفاقات كامب ديفيد ومدريد وأوسلو ووادي عربة ضمن هذا السياق، والأمر لا يتعلق بحكومة يمينية متطرفة مقابل حكومة معتدلة؛ فالقناعة بأن إسرائيل دولة مهددة في وجودها، وأن السلام من حيث المبدأ يعني بداية النهاية لها - ثابتة راسخة، والحكومات الإسرائيلية كلها كانت على هذا الرأي، وكلها كانت ترى أن هذا التهديد سيستمر لأجيال، سواء كان هناك سلام أم لا، واليوم ترى الحكومة في تل أبيب أن أوباما وإدارته ساذجون للغاية ومبالغون في الضغط عليها؛ فلم يكن أمام إسرائيل إلا أن تصفعهم صفعة إيقاظ.

والحقائق المادية على الأرض تدعم رؤية إسرائيل الأمنية؛ فـ "حماس" حقيقة ستبقى، وهو ما تعلمه إسرائيل وتخشاه، اليوم تسيطر "حماس" على غزة، كما أن لديها قدرة تأثير عميق على الضفة إن لم يكن السيطرة، القيادة الفلسطينية عاجزة عن السيطرة الأمنية التامة، وفاقدة للكثير من شرعيتها بسبب فسادها، ومنقسمة على نفسها؛ وبالتالي لا يمكن التعويل عليها في التحكم بالفلسطينيين، وإسرائيل تخشى أن تتحول الضفة إلى غزة أخرى في ما لو انسحبت منها؛ لذلك فإن إسرائيل عندما تقبل الحديث عن دولة فلسطينية تتحدث عن دولة محكومة عسكرياً من إسرائيل؛ لأن هذا أقل ما يضمن أمنها، وترفض عودة اللاجئين، وحتى لو وافق الطرف الفلسطيني على شروط إسرائيل فإنها تعلم أن أي سلام فيه تخلٍ عن اللاجئين أو القدس يمكن اختراقه من الأعداء الاستراتيجيين للولايات المتحدة أو إسرائيل.

دول الجوار لا تستطيع أن تقدم ضمانات أمنية مطمئنة لإسرائيل؛ كلها دول تواجه تحديات داخلية وإقليمية وهذا يقلق إسرائيل، مصر تواجه مرحلة انتقالية ستسعى فيها الأطراف الجديدة لكسب أعلى قدر من التأييد الشعبي، وإيذاء إسرائيل أكبر ورقة يملكها أي طرف داخل مصر، الأردن ذو غالبية فلسطينية أكثرها يعيش في ظروف قاسية للغاية لن تنتهي قريباً؛ لغياب البنية الاقتصادية القادرة على تحسين أحوالهم، حزب الله في أحسن أحواله اليوم، وسلاحه مرتبط عضوياً بالتركيبة الطائفية للبلاد؛ وبالتالي فالمؤكد أنه سيبقى على ما هو عليه، ثم إن علاقته بإيران مصيرية وبدرجة أكثر مما مضى، سورية لا تستطيع التخلي عن حلفها الاستراتيجي مع إيران، لأنه يضمن لها التوازن الذي تحتاجه إزاء العراق وتركيا وإسرائيل، كما أنها لا تستطيع التخلي عن الجولان إلا بأزمة شرعية داخلية.

إقليمياً: طموح إيران في تنامٍ متواصل، دورها في العراق يتصاعد وسلاحها النووي يقرب من كونه واقعاً، والمنطقة برمتها تشهد تحديات اقتصادية وديموغرافية ومائية تجعل التنبؤ بالواقع الأمني صعباً، وأيضاً لا يمكن التعويل على التطبيع؛ لأنه مرفوض شعبياً ويحتاج إلى أجيال ليصبح أمراً مقبولاً، كما أنه يحتاج إلى تحسين الوضع الإنساني الفلسطيني؛ وهذا الأخير يعني تهديداً قومياً.

دولياً: الولايات المتحدة أقل فاعلية مما كانت عليه؛ وذلك للتمدد الواسع لقواها؛ مشغولة بالعراق، وبالقاعدة، وأفغانستان، والتهديد الصيني المقبل، وإعادة التوازن مع روسيا، وبناء قدراتها الاستراتيجية في آسيا الوسطى، ومنع انتشار السلاح النووي، وعلى وجه الخصوص حصول إيران عليه، وأكثر من هذا مشغولة بظروفها الداخلية وصراعاتها المحلية.

كل ما سبق وإسرائيل نفسها تواجه تحديات داخلية، جغرافياً تفقد العمق الاستراتيجي؛ يمكن لطائرة حربية أن تقطع المسافة بين حدودها الغربية والشرقية في أقل من أربع دقائق، الخلافات الإسرائيلية/ الإسرائيلية تتصاعد، هناك تكثيف في المراجعات الداخلية حول هوية الدولة وطبيعة علاقاتها ولا إنسانيتها في التعامل مع الفلسطينيين، الخلافات السياسية حول مستقبل إسرائيل وطريقة إدارتها لأمنها أكثر حدة مما مضى.

أي أن المعطيات كلها تدل على أن أمن إسرائيل في أسوأ مستوياته، ثم يأتي أوباما ليضغط عليهم!

في عام 1956 قرأ موشي ديان العزاء على جندي إسرائيلي قُتِل في غزة، وكان مما قال: "علينا ألاّ نلقي اللوم على القتلة اليوم، ما الفائدة في إعلان كرههم لنا؟ لثماني سنوات هم قابعون في مخيمات للاجئين ونحن أمام أعينهم نحوّل أرضهم وقرى أجدادهم إلى موطن لنا... وراء الحدود هناك بحر من الكراهية ينتظر اليوم الذي نمل فيه ونستسلم لسفراء النفاق الذين يدعوننا لطرح سلاحنا... نحن جيل استعمرنا أرضاً لا يمكن غرس شجرة فيها أو بناء بيت عليها بغير الخوذة والمدفع... هذا قدر جيلنا... هذا اختيار حياتنا..."، تلك المعطيات التي كانت وراء كلام ديان لم تتغير، ولن تتغير في المستقبل القريب؛ وبالتالي لن تغير القيادة الإسرائيلية موقفها؛ وستهين "سفراء النفاق" أياً كانوا.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف