جريدة الجرائد

العراق أولاً.. في العراق

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

خيرالله خيرالله

لن يكون سهلا تشكيل حكومة عراقية جديدة في ضوء الانتخابات التي جرت في السابع من اذار- مارس الجاري. ستمر فترة لا بأس بها، قد تطول وتقصر حسب الظروف، قبل ان يتمكن العراقيون من رؤية حكومة تعكس الى حد كبير خياراتهم السياسية. لعلّ ابرز تلك الخيارات وجود رغبة لدى الشعب العراقي في التخلص من هيمنة الاحزاب المذهبية والطائفية والابتعاد عن كل ما من شأنه وضع العراق تحت الوصاية الإيرانية. ما يؤكد وجود مثل هذا التوجه حقيقة، تقدم "الكتلة العراقية" برئاسة الدكتور اياد علاّوي على غيرها من الكتل بما في ذلك "دولة القانون" التي يرأسها السيد نوري المالكي رئيس الوزراء الحالي. والمالكي، في المناسبة، احد قياديي "حزب الدعوة"، تاريخيا، وزعيم احد اجنحة الحزب حاليا وهو يسعى الى البقاء في السلطة ناسيا ان العراق تغيّر وان الانتخابات قد تشكل خطوة في الاتجاه الصحيح. يمكن ان تكون الانتخابات خطوة ايجابية في حال اسست لعملية تبادل للسلطة وانتقالها سلميا الى الفائز في الانتخابات بدل ان تكون مجرد وسيلة لتكريس امر واقع يتمثل في هيمنة حزب ما او مجموعة عسكرية على الحياة السياسية في البلد كما كانت عليه الحال في العراق منذ الانقلاب الاسود في الرابع عشر من تموز- يوليو 1958. كان الرابع عشر من تموز 1958 اخر يوم ابيض في التاريخ الحديث للعراق. مع سقوط النظام الملكي، سقط كل ما هو حضاري في بغداد والمدن العراقية الاخرى وانتهت في الوقت ذاته الحياة السياسية التي كانت قائمة على التعددية الحزبية وعلى حد ادنى من التقاليد المعترف بها التي يتعامل اهل السياسة مع بعضهم بعضا بموجبها.
كان الانقلاب على الهاشميين صيف العام 1958 بداية مرحلة دموية استمرت ما يزيد على نصف قرن. الان وبعد مرور كل هذا الوقت وعلى الرغم من المجازر التي ارتكبت في حق العراقيين من كل الطوائف والقوميات وعلى الرغم من كل المغامرات المجنونة لصدّام حسين التي لم ترهق العراق وحده، بل ارهقت المنطقة معه، هناك بصيص امل. تشكل الانتخابات الاخيرة فرصة لانطلاقة جديدة للعراق بعدما اظهرت ان العراقيين يقاومون كل انواع التخلف ويتطلعون الى ان يكونوا شعبا يعيش في بلد آمن في ظل نظام ديموقراطي يحترم فيه الفرد بغض النظر عن دينه وطائفته ومذهبه وقوميته. لذلك صوت العراقيون لمصلحة "الكتلة العراقية" بحثا عن مخرج من وضعهم الراهن. اختاروا بكل بساطة الخروج من حال الهيمنة المذهبية والتقوقع والارهاب والتطرف. في النهاية، تمثل "الكتلة العراقية" بعض خيرة العراقيين الذين ما زالوا يؤمنون بأن في الامكان فتح صفحة جديدة في تاريخ البلد وانه لا تزال هناك مناعة لدى المجتمع العراقي تمكنه من التصدي للغرائز المذهبية التي فجّرها الأميركيون عبر السياسات الغبية التي مارسوها في مرحلة ما بعد احتلالهم للبلد. كان قرارا الاحتلال القاضي بتشكيل مجلس الحكم المحلي بطريقة تؤدي الى تهميش السنة العرب وحل الجيش الوطني اللبنة الاولى على طريق اخراج الغرائز المذهبية من القمقم. اكثر من ذلك، كان القراران اللذان في اساسهما اتفاق ضمني أميركي- إيراني تجسد في مؤتمر لندن للمعارضة الذي انعقد في كانون الاول- ديسمبر 2002 بمثابة دعوة الى ممارسة الارهاب وتشجيع "القاعدة" وما شابهها على ايجاد موطئ قدم في الاراضي العراقية. فالى اين يمكن ان يذهب مئات الاف العراقيين الذين فقدوا المعيل فجأة؟ اوليس الارهاب والتطرف الملجأين الوحيدين لمن فقد كل امل في ايجاد لقمة العيش وحد ادنى من الحياة الكريمة؟
ثمة من يقول ان السياسات الأميركية لم تكن غبية بمقدار ما انه كان مطلوبا منذ البداية تفتيت العراق. وهذا هدف يلتقي عنده المحافظون الجدد في أميركا، اضافة الى إيران واسرائيل. من ينادي بهذه النظرية يمكن ان يكون على حق لسبب في غاية البساطة يعود الى ان الجهود انصبت في مرحلة ما على تغذية كل ما من شأنه اثارة النعرات بين العراقيين، بما في ذلك تنفيذ عمليات تطهير عرقي داخل احياء في بغداد نفسها.
بعد سبع سنوات الا شهر واحد على سقوط بغداد على يد القوات الأميركية، رد العراقيون على محاولات تفتيت العراق. صوتوا لمصلحة مرشحين يؤمنون بالمصلحة الوطنية العراقية اولا، صوتوا عمليا للعراق اوّلا. صوتوا للائحة اياد علاّوي الذي سعى الى ان تكون هناك علاقات متوازنة بين العراق وكل دول الجوار، بما في ذلك إيران. انفتح علاّوي على طهران وارسل مبعوثين اليها قبل اشهر قليلة. هذا ليس سرا. هناك حلفاء لرئيس الوزراء العراقي السابق امتعضوا من هذه الخطوة. وربما كان هؤلاء الحلفاء الذين انشقوا عن علاّوي على حق كونهم يعرفون تماما ان هناك حساسيات لدى العراقيين عموما وحتى لدى الشيعة العرب في العراق تجاه الإيرانيين واطماعهم المعروفة. على رأس الذين لم يخفوا تضايقهم من تصرفات اياد علاّوي السيد اياد جمال الدين وهو رجل دين شيعي شكل لائحة خاصة به حققت نتائج طيبة في الانتخابات وفي المناطق ذات الغالبية الشيعية تحديدا، استنادا الى عدد الاصوات وليس الى عدد المقاعد. ان دلّ ذلك على شيء، فانه يدلّ على انبعاث روح وطنية عراقية في مناسبة الانتخابات. اليست مفاجأة ضخمة ان تأتي لائحة "الكتلة العراقية" في الطليعة في كركوك حيث عدد كبير من الناخبين الاكراد؟
في النهاية، ان الايام المقبلة ستظهر ما اذا كان العراق سيستفيد من الانتخابات لطي صفحة الماضي. كل شيء سيعتمد على صورة الحكومة الجديدة. لكنه سيعتمد ايضا على تصرفات رئيس الوزراء الحالي الذي يستطيع، في حال تصرف بشكل حضاري ان يقول ان العراق طلق الماضي وقضى بالفعل على نظام الحزب الواحد وانه قادر ان يكون يوما دولة مؤسسات. بعض التفاؤل ضروري الان على الرغم من ان التاريخ الحديث، وحتى القديم، لما صار يعرف بالعراق بعد انهيار الدولة العثمانية مطلع العشرينات من القرن الماضي لا يشجع على ذلك كثيرا...

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
رائع
علي -

مقال رائع يعطي فكرة عن ما يجري في العراق بكلام بعيد عن التعقيد. شكرا للكاتب.