القصيمي «يبرق» لجمال عبدالناصر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
عبدالله القفاري
الحوار مع الأستاذ يعقوب الرشيد حول القصيمي، يحمل عناصر الاكتشاف، مع كم كبير من التفاصيل التي قد لا تعني شخصية القصيمي وحده. وفي كل مرة يمسك بأطراف الذاكرة يذهب بعيداً ... فأحاول استعادته للبقاء عند عبدالله القصيمي.
سألته: في لقاء سابق، سمعت منكم تفاصيل أخرى عن إخراج القصيمي في صيف 1954 من مصر. بعض هذه التفاصيل لم ترد في السيرة التي كتبها الباحث الألماني يورغن فازلا وهو الذي تعرض لهذه المرحلة من حياة القصيمي.
أجابني: " لقد كان أمر ترحيله من القاهرة شاقاً عليه، ووقع موقعاً سيئاً في نفسه، وهو الذي لا يعرف غير القاهرة التي قدم إليها عام 1927، وقد تزوج واستقر بها. وقد روى لي شخصياً، أنه أرسل برقية احتجاج شديدة اللهجة إلى جمال عبدالناصر شخصياً جاء فيها انه انتظر كغيره أن تكون الثورة لصالح العدالة واحترام القانون والقضاء على الفساد، وذكره بالمبادىء التي جاءت بها ثورة يوليو، واستنكر أن يتم التعامل معه بهذه الطريقة دون جناية أو جريمة اقترفها، وانه لا توجد مبررات تجعل مثل هذا الأمر مسوغاً. وذكر لي أنه بعد أيام قليلة جاء للقصيمي مندوب من مجلس قيادة الثورة، وذكر له أن مجلس قيادة الثورة وعبدالناصر شخصياً يعتذر عما أصاب القصيمي من ضرر، ولكن مصلحة الثورة تتطلب هذا الإجراء الذي لن يطول".
المصدران الوحيدان اللذان يمكن الاعتماد عليهما في التثبت من هذه الواقعة هما ما جاء في دراسة الباحث اللبناني أحمد السباعي والباحث الألماني يورغن فازلا، ولم أجد فيهما أي إشارة لهذه الواقعة تحديداً - واقعة الاحتجاج وليس الإخراج - إلا أنني عندما عدت أطالع في مرافعة محامي القصيمي الأستاذ محمد عصفور في القضية المرفوعة من قبل القصيمي لإلغاء الإجراء، وهي الوثيقة المهمة التي زودني بها الأستاذ محمد القشعمي، وجدت أنه يتحدث عن عملية ترحيل جاءت على مراحل، فقد تم سحب جواز الإقامة والبطاقة بحجة بعض الاستيفاءات، وأن القصيمي كلما طالب الجوازات بهما ماطلت الإدارة بذلك. وانه في يوم الثلاثاء 28/7/1954 ذهب ليستفسر مرة أخرى عما تم بالجواز فاعتقل، ورُحل إلى سجن القناطر الخيرية. ولعل إدراك المسافة الزمنية بين الإجراءين - إجراء سحب بطاقته وإجراء الترحيل - يسمح بتسجيل هذه الرواية على لسان أحد الشهود.
رحلة القصيمي الأولى إلى بيروت جاءت على خلفية إخراجه من مصر، إلا أنها كانت مرحلة ثرية ومهمة في حياة عبدالله القصيمي، وكانت منعطفاً مهماً في تطور فكر وشخصية ورؤية عبدالله القصيمي. في بيروت بين عامي 1954- 1956 اشتغل في الكتابة السياسية في العديد من الصحف والمجلات مثل الحرية والجريدة والأحد. أصبحت بيروت رئة يتنفس منها القصيمي هواء الحرية، ولذلك حتى عندما سمح له بالعودة للقاهرة لم يقوَ عن التوقف عن زيارة بيروت وعاد إليها عام 1958 وتوالت زيارته بعد ذلك لبيروت حتى حادثة إخراجه منها قسرا في عام 1967.
الدراسة الوحيدة المنشورة عن القصيمي لم تقدم سوى إشارات مقتضبة عن نوعية انشغالات القصيمي السياسية في بيروت، ولم تشر سوى إلى قضية سياسية واحدة كتب فيها القصيمي وهي قضية "واحة البريمي".
سألت الاستاذ يعقوب الرشيد، كيف أصبح القصيمي كاتباً سياسياً في بيروت، وما هي القضايا السياسية التي كانت تشغله؟
أجاب: "في بيروت وجد القصيمي بيئة حيوية جدا، وتعرف على العديد من الشخصيات التي ربطته بها صداقات ظلت حية حتى غيابهم أو غيابه. بيروت التي كانت مختبر الإعلام العربي والصراع العربي والمنشقين العرب ... كانت مساحة تتفاعل فيها المذاهب الفكرية والأيديولوجية والصراعات السياسية، وعندما بدأ القصيمي يقترب من الكتابة السياسية/ الفكرية، كان مناوئا لحكم الاستبداد، مشككاً بعصر البطل العربي القومي، ولم يسلم القصيمي من هجوم القوميين أو البعثيين أو الشيوعيين أو الناصريين. وكان له دور في حادثة مهمة حينها، وأعتقد انه أسهم في إنقاذ الكثيرين على خلفيات هذه القضية.
سألته ما هي هذه القضية؟ قال إنها تلك التي تتعلق بمطالب العمال في شركة الزيت عام 1958. لقد كتب العديد من المقالات الساخنة في بيروت. لقد كنت على علم بكل هذا، وأعرف إسهامه في تلك القضية. لم يكن أسلوب القصيمي خافياً، إلا انه كان يتوارى أحياناً خلف أسماء مستعارة في بعض تلك المقالات".
لا غرابة أن تكون مرحلة بيروت مرحلة ثرية في حياة القصيمي. أجواء الحرية الفكرية في التعبير والنشر منحت القصيمي اكسير الحياة، ووفرت له منبراً لم يكن يحلم به في القاهرة، التي بدأت تتحول آنذاك إلى فرض مزيد من القيود على النشر أو تداول الأفكار، وتوجه النظام الجديد نحو إعادة صياغة الحياة السياسية في مصر على نحو مكّن النظام من إحكام قبضته على حرية الفكر والنشر.
سألت الأستاذ يعقوب الرشيد هل تعتقد أن السماح بعودة القصيمي إلى القاهرة يحمل أسباباً سياسية كما كانت من بين أسباب إخراجه منها لأول مرة؟
قال لي:"نعم، أعتقد هذا. القصيمي في بيروت كان كاتباً سياسياً، وكان مزعجا ومؤثرا، وفي القاهرة يمكن السيطرة على أي نشاط من هذا النوع. كما أؤكد على دور السياسي كمال جنبلاط - وقد كان صديقاً مقرباً من القصيمي - الذي توسط في العام نفسه للسماح للقصيمي بالعودة للقاهرة لدى السلطات المصرية".
لقد كانت بيئة بيروت ثرية وخصبة واستوعبت القصيمي في الخمسينيات واحتفت به، وليس أدل على ذلك من تلك الرسالة المفتوحة التي وجهها أكثر من 27 كاتباً وأدبياً ومثقفاً إلى الأديب المصري الكبير طه حسين وسلمت له خلال زيارة رسمية له إلى بيروت باعتباره وزيراً للثقافة حينها. أما موقعو الرسالة فهم: واصف البارودي، وأنور الخطيب، وجورج جرداق، عبداللطيف شرارة، قدري قلعجي، بهيج عثمان، منير البعلبكي، باسم الجسر، سهيل ادريس، محمد وهبي، وديع أديب، نبيه فارس، عارف أبو شقرا، اميلي فارس إبراهيم، زاهية قدروة، كامل العبدالله، موسى سليمان، فريد النجار، صلاح لبكي، جبرائيل جبور، عنطوس الرامي، سامية جنبلاط، عابدة لبكي، انطون كرم، بديع شبلي، فكتور حكيم، جورج حنا.
أما نص الرسالة التي نشرتها صحيفة النهار في 6 مايو 1956 فجاء فيها: " يتنمى موقعو هذه الرسالة إلى المثقفين اللبنانيين الذي يعرفون السيد عبدالله القصيمي رائداً للفكر الحر في العالم العربي، وكاتباً غير عادي، وهم في أمس الحاجة إلى ريشته البليغة ومنطقه السليم لكي يحققوا أهداف التجديد الذي تنادي بها هذه الريشة. وهم يتوجهون إلى الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي بسبب موقعه القيادي وتأثيره الكبير على الرأي العام في مصر ويرجونه باسم الفكر الحر الذي يطالب به بصفته شخصية أدبية قيادية أن ينظر في قضية السيد عبدالله القصيمي، الذي أقيمت ضده دعوى أيديولوجية طرد بسببها من البلد الشقيق. ولقد عرضت حالته على مجلس الدولة المصري الذي توصل بعد دراسة مستفيضة إلى حكم يقضي بإلغاء قرار الإبعاد. وهذا الحكم يتفق مع تقاليد مصر التي كانت تقدم دوماً الملجأ للأحرار والمضطهدين. ونحن نضع هذه القضية مجدداً بين يدي الدكتور طه حسين ولا يساورنا أي شك في أنه سيفعل كل ما في وسعه لكي يسهل عودة السيد القصيمي إلى مصر حيث تنتظره أسرته المحترمة وينتظره أصدقاؤه الأوفياء وتلامذته المريدون...".
لفت انتباهي القضية الأيديولوجية التي يتحدث عنها خطاب المثقفين اللبنانيين، على أن تتبعي لمسار إخراج القصيمي من مصر في عام 1954 لم يكن بسبب قضية تتعلق بكتاب "هذي هي الأغلال" فالكتاب صدر منذ عام 1946، ويظهر لي من خلال الخطاب الطويل الذي بعثه القصيمي لمحاميه السيد محمد عصفور أو ما جاء في مرافعة محاميه أن سبب إخراجه ظل مبهماً حتى للمحكمة التي نظرت في قضيته، وعليه أرجح أن السبب سياسي بالدرجة الأولى، ويأتي في سياق علاقته بالطلاب اليمنيين بالقاهرة، وجاء برغبة من إمام اليمن آنذاك أحمد يحيى حميد الدين، وهذا ما تؤيده شهادات سابقة مع بعض أصدقاء القصيمي اليمنيين.
هذا بعض ما جاء في حوار مع صديق للقصيمي اقترب منه بما يكفي للبحث عن شهادته، ويدرك القارىء أن بعض الروايات من الصعب نشرها خاصة عندما تتعلق بأسماء شخصيات أخرى لا يملك الكاتب الحق أن ينشر عنها دون إذنها، وإنما اكتفى ببعض التفاصيل التي تطال شخصية الحوار بعيدًا عن الخوض في أسماء شخصيات سعودية أخرى جاءت في ثنايا اللقاء.