في العراق.. شيء ما يشبه الديموقراطية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
يحيى الأمير
ليس في الانتخابات فقط، ولا في الأصابع التي غطت أطرافها بالحبر، ولا في الآراء الإيجابية التي أعلنتها المنظمات العالمية الموكلة بمراقبة الانتخابات العراقية، ليس بذلك فقط يمكن الحديث بطمأنينة عن الانتخابات العراقية الأخيرة، والتي تأتي بعد سبع سنوات من سقوط النظام السابق، وبعد سنوات أيضا من العنف والبطش والانهيارات الأمنية المتوالية التي جعلت من العراق واحدا من أكثر المناطق توترا وحدة في العالم، ربما بشكل لم تعرفه دولة في العصر الحديث، والوضع الذي آل إليه العراق بفعل الاحتلال وما أسفر عنه الانكشاف الأمني من فرصة جعلت القاعدة تسعى لتجعل من العراق منطلقها الأبرز، إضافة إلى الدور الإيراني الذي أراد أن يعوض سنين المواجهة مع النظام العراقي السابق، وأن يعيد استنساخ تجارب كالتي في لبنان، وكيف وجدت الطائفية لها أرضا خصبة جعلت العراق في بعض فتراته يصبح الدولة الوحيدة التي يكون فيها القتل على الهوية.
في الواقع كانت فترة السنوات الأربع الماضية رغم أنها جاءت نتيجة انتخابات يفترض فيها أنها نظامية إلا أنها لم تؤد إلى النتائج التي كان يطمح إليها العراقيون لا على الصعيد الأمني ولا على صعيد التنمية والازدهار، خاصة أن الملف الأمني كان مفتوحا باستمرار نظرا لكثرة العمليات الإرهابية التي باتت موجهة بشكل شبه كامل للحياة العراقية بمختلف تفاصيلها، وقليل منها كان موجها إلى القوات الدولية التي في العراق، وعلى مستوى التنمية كان الفساد الإداري والمالي يعصف بمختلف الأجهزة الحكومية والعائد إلى سيطرة ولاءات وانتماءات تجعل من البحث عن المصلحة الوطنية قيمة تالية لا تحظى بالأولوية اللازمة لذلك.
يمكن الاحتجاج هنا بأن الحكومة ورئاسة الوزراء طوال السنوات الأربع الماضية كانت نتيجة انتخابات حرة ونزيهة، وبالتالي فما حدث كان خيارا شعبيا. وهي رؤية لها ما يدعمها في الواقع إنما على مستوى الفعاليات الانتخابية ولكن ليس على مستوى القيمة الانتخابية وجدواها الوطنية. فالانتخابات قيمة ووسيلة لا يمكن أن تحقق جدواها الحقيقية إلا حين يصل الوعي المجتمعي إلى الدرجة التي يصبح فيها وبرغم تنوع انتماءاته يعيش انتماء واحدا يمثل الشراكة الحقيقية للجميع، فيما تمثل الانتماءات التالية شكلا من أشكال التنوع والتعدد التي من شأنها أن تثري ذلك المشترك، وليس بمستغرب قبل أربع سنوات من الآن أن يتجه عراقي إلى صندوق الانتخابات ويدلي برأيه انطلاقا من انتمائه الطائفي أو الحزبي فالوضع القائم آنذاك واتجاه السياسة والساسة في العراق ليكونوا مجرد منابر للطائفية، وشعور العراقي من خلال ما يشاهده أن السلامة قد لا تجد لها طريقا سوى من خلال التترس بطائفة أو حزب، فقد أثبت كل ذلك بالنسبة للعراقيين أن كل تلك الانتماءات وإن صنعت طمأنينة مؤقتة إلا أنها لا يمكن أن تصنع عراقا آمنا ومطمئنا ومزدهرا. ولقد كانت تجربة السنوات الأربع الماضية أكبر دليل أعاد تشكيل الوجدان العراقي، وهو يتابع ما تصنعه الطائفية به من حصار لقيمته في الحياة، ولقيمته الفردية الوطنية التي تراجعت أمام قيمة الجماعة والطائفة.
فوز قائمة إياد علاوي بالانتخابات الأخيرة، يمكن قراءتها على أنها عنوان يمثل صوت العراقيين وتطلعهم للمرحلة القادمة، ورغم ضآلة نسبة الفرق بينه وبين قائمة المالكي إلا أن القبول الذي يحظى به والذي جعله بهذه المنافسة الشرسة أكبر دليل على أن العراقيين قد تخلوا ولو بشكل جزئي عن الطائفية كمعيار وكمبرر للاختيار بين مرشح و آخر، وليس هناك من عراقي الآن يحدث نفسه بأنه اختار إياد علاوي لكونه شيعيا أو لكونه سنيا، بل لأن الهروب من التجارب السابقة يقتضي البحث عن صوت يرفع القيمة الوطنية عاليا، ورغم أن علاوي غير مرغوب به من غلاة السنة أو من غلاة الشيعة في العراق، حيث يعتبره الشيعة علمانيا وعميلا ولا يحمل أي ولاء لإيران، كما يعتبره بعض غلاة السنة أنه المسؤول عن الهجوم العسكري الذي تم توجيهه للفلوجة في عام 2004، ورغم ذلك فقد استحوذ علاوي على ما يزيد عن ثمانين بالمئة من نسبة التصويت في مناطق السنة، وعلى نسب مفاجئة كذلك في المناطق الشيعية.
حرية الاختيار التي بات يعيشها المواطن العراقي هي التي صنعت هذا الاتجاه الجديد ليستثمر كل عراقي صوته من أجل العراق، فالانتخابات لا تنتعش إلا حين يصبح الخيار حرا من أية تأثيرات أيديولوجية عرقية كانت أو مذهبية، متجها نحو مصلحة الكيان الذي يعيش فيه، وأمام مختلف الخيارات كان إياد علاوي بتوجهاته الوطنية والتي تفصل بين الأيديولوجيا وبين الوطنية هو الأقرب للعراقيين، ذلك أن اشتداد الصراعات الطائفية في بلد مثل العراق يجعل من وجود قوى وطنية حرة هو الخيار الأنسب والأمثل.
لقد أفسد العراقيون على خصومهم وعلى مثيري الطائفية والحزبية كل ما كانوا يسعون لتأجيجه طوال أعوام في العراق، وقد بات واضحا أنه لا يوجد اعتدال مذهبي إذا ما دخل المذهب في السياسية، ولكن يوجد اعتدال وطني إذا ما أصبح التخلص من الانتماءات الأيديولوجية هو الطريق الأول للانتماء الوطني.