جريدة الجرائد

الليبرالية في بلاد التشدد!

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

أحمد عبد الملك

يرى بضع عقلاء الليبرالية أن الإنسان يجب أن ينحاز إلى العقل الإنساني ومرجعيته المطلقة للشؤون الدنيوية، وحقه في النقد والمساءلة من دون أن يُجابه بالقمع والإرهاب. ويرون أن الليبرالية تُدين كل فكر أحادي يحتكر الحقيقة والحق. وأن ينحاز الليبرالي إلى الدولة والوطن والأمة، ويرفض بعض ممارسات ما قبل الدولة التي تنازع البقاء. ("الحياة" 8/3/2010 ).

وفي عالم عربي يميل في الغالب إلى التشدد وربط القيم الدنيوية بالدين -الذي هو بالأساس حاضٌ على التقدم وإعمال العقل- لا يمكن أن يتحدد مفهوم أو تنتعش قيم ليبرالية. ويعيب البعض على مفهوم الليبرالية، من حيث هو، كونه غربي المنشأ! ونحن لا نرى ضيراً في ذلك! أليست السيارة والطائرة وإبرة التخدير والتلفزيون والكمبيوتر والتشريعات المنظمة للحياة العامة منتجات وقيماً غربية؟ ثم ما العيب في أن تكون هنالك قيم مفيدة، وإن كانت غربية، تصلح لتنظيم الحياة؟!
إن بعض عصور التخلف التي عاشها المجتمع العربي، وتعدد أهواء الكيانات المتناحرة، قد أطَّرت الحياة في المجتمع العربي بإطار (رهباني) طيِّع للقوي طالما أنه يحتمي بالدين. وصار أن اعتمدت دول عديدة على رجال دين في كسب ولاء ورضا الشعوب. وتبعاً لذلك، قامت بعض الدول بسنّ التشريعات المؤيدة لهذا الخطاب. فجاءت معظم القوانين مخالفة لبعض أبعاد حرية الإنسان أو لقدرته على إدارة شؤون حياته. وطبقاً لذلك، ترسّخ مفهوم البطريركية عبر تحالفات بين القوى النافذة في المجتمع. وللأسف لم تكن بعض تلك التحالفات تسير في اتجاه الوطن أو المواطنية، بل كانت تعطي مصلحة الأشخاص الأهمية القصوى. وفي الدولة الحديثة، ومع تدفق الثروة تحوّل مفهوم بعض هؤلاء إلى مفهوم براغماتي يعتمد على "شرهات" الدولة مقابل ولاء العشيرة أو الأقوياء. وأصبح أفراد المجتمع معتمدين في جل شؤون دنياهم على الدولة الريعية التي توفر كل شيء. ناهيك عن الأفراد والجماعات الأكثر حظوة من استمرار واقع الحال.

إن التوجه الليبرالي يعارض فكرة المنفعة المتبادلة بين تلك الجماعات والدولة! ويرى أن نقد الدولة وتبيان مواقع الخلل في تنفيذ السياسات، إن وجدت، أصبحت من أهم عناصر الحياة الجديدة. فالناس شركاء في الوصول إلى الحقيقة أو تداولها. والحال نفسه مع الحق.

واليوم، ومع ظهور موجات التشدد الديني، والعمليات الإرهابية التي تطال الأبرياء في مواقع متعددة من العالم، بدأت بعض تلك الدول مراجعة عقودها مع "ممثلي الأديان"! واختارت من هؤلاء "الممثلين" من يسوّغ تشريعاتها أو توجهاتها، أيضاً تحت غطاء ديني، ولكن هذه المرة بارتباط وثيق يمثله توظيف رجال الدين وإدخالهم حلبة السياسة! وهكذا قد نجد رجل دين وقد هجر المسجد وأصبح نجماً فضائياً! وبهذه الكيفية غيّرت بعض الدول الحديثة شكل العلاقة بينها وبين الجماعات الدينية. وظهرت مفاهيم جديدة مثل (الوسطية) أو الليبرالية الإسلامية، مقابل التشدد والغلو الذي أخذ -مع حقب اليأس- طابعاً دموياً قض مضاجع بعض الدول التي عولت عليه.

غير أن مشكلتنا اليوم ترتبط بالمصطلح! فكثير من أبناء الأمة يتعامل مع مصطلح الليبرالية على أنه صنو الكفر! وهذا دليل واضح على قصر العقل، بل لربما كان نتيجة رهن العقل بيد التاريخ، فلم يعد قابلاً أو قادراً على ممارسة دوره. وبات "قدَرياً" يتلقى التعليمات والأوامر والنواهي وينفذها دون وعي أو مناقشة، حتى وإن طالت حياته أو شؤون أفراد المجتمع البعيدين عن حدوده الشخصية. ونتيجة لتحالف السلطة مع "مكفري" الليبراليين، اعتمد التكفيريون على عصاها، واستخدموا خطاباً عنيفاً ضد محاولات التنوير والتحديث في المجتمع. وصار أن حوصر الليبراليون حتى في قوت عيالهم وصار الرقيب يقف على خبزهم الصباحي، تماماً كما يقف على الورقة التي يكتبون عليها.

إن التوجه الليبرالي يساعد السلطة -وكل سلطة تريد أن يكون لها موقع على الخريطة الدولية وأن تُنعت بأنها متحضرة- لكن الإشكالية تكمن في عدم استعداد بعض الدول لخوض تجربة تهدد العلاقة المترسخة مع الجماعات الدينية، التي لا تؤمن بقيم التحديث والتمدين في المجتمع.

وللأسف، هنالك دول في العالم العربي، على رغم إعلاناتها التحرر من ربقة الماضي وحتميات التاريخ، إلا أنها ما زالت تمارس "البطريركية" الصارمة، وتعتمد على مقاربة محددة هي (المنفعة + الولاء)! وهكذا قد ترهن العديد من أبنائها في تابوت التاريخ، ولا تسمح لهم بممارسة دورهم في عملية التحديث. أي صياغة أو إعادة صياغة عقل الأمة بعيداً عن سياق السلطة أو اهتماماتها. ولذلك، يجد الليبراليون العرب أنفسهم قلة، وغير متحدين، وفقراء، ودون نفوذ. فلا تُسمع لهم كلمة ولا رأي، ويسود واقع الحال في العلاقة بين السلطة والمجتمع. فالدولة تضع الدستور، وقد ترفعه. والدولة هي التي تصوغ المذكرات التفسيرية أو القوانين، وعلى الشعب الاقتراع للوصول إلى نسبة 95 -100 في المئة! دون أن يقرأ الشعب مواد الدستور التي قد تضر بحياته وحياة أبنائه. وعندما نأتي لقضية حقوق الإنسان -كملمح ليبرالي أكدته الشرائع والمواثيق الدولية- قد نجد الدولة الحديثة تتردد في مناقشته، أو حتى السماح بتداول حيثياته، لاعتبارات تؤسسها علاقة الدولة بالمجتمع، الذي قد تتأثر مصالحه عند تطبيق مبادئ حقوق الإنسان. وقد نجد التفاف الدولة حول المفهوم! ففي حين نجد النص الدستوري يؤكد المفهوم، قد نلاحظ أن القوانين تعارضه! ولقد دان العديد من المؤسسات الدولية والهيئات المختصة بحقوق الإنسان انتهاكات بعض الدول الحديثة لحقوق مواطنيها وصار التقرير الدوري الدولي يشير بوضوح إلى مكامن الانتهاكات وشخوصها.

إننا نعتقد أن الليبراليين ليسوا عشيرة من الشياطين، التي تنشر الكفر ومعاداة القيم أو تحاول تدمير المجتمعات، بقدر ما هم فئة يهمها أن يتحول عقل الإنسان من التلقي السلبي إلى التلقي الإيجابي، وأن النقد الذي يصب في مصلحة الجماعة ليس، بالضرورة، فعلاً غير بناء. كما أننا نعتقد أن المتشددين أيضاً ليسوا "ملائكة"، يفرشون الأرض وروداً، ويحملون الخبز اليومي لفقراء العالم.

إن الدول الحديثة أطلقت مشاريع تنموية سياحية -بكل ما فيها من تعارض مع الفكر المتشدد- وحدَّثت التعليم، ورفضت تعاليم التزمت! كما أنها أطلقت الفضائيات -بكل ما فيها- وأنشأت الفرق الفنية والأوركسترا؛ ومصانع الأفلام. فلماذا تمارس الدولة الحديثة سلوكيات ليبرالية بهذا الشكل دون أن ينتقدها أحد؟! وعندما يأتي الليبراليون إلى قضية الحقوق يسود الصمت؟!




التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف