في الشرق الأوسط.. ثابت ومتحولات
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
اياد أبو شقرا
الكلام السياسي يهدف إلى إضفاء غلالة من الصدق على الأكاذيب، والاحترام على الجرائم، والصدقية على الهباء
(جورج أورويل)
يمكننا بكثير من الواقعية السياسية وصف هذه المرحلة الرمادية من عمر منطقة الشرق الأوسط، والمشرق العربي بالذات، بالمرحلة التجريبية. فالجميع يبدون وكأنهم يمتحنون نيات الآخرين، والجميع أيضا مترددون ومراهنون - أكثر منهم واثقين - إزاء اتجاه رياح الاستحقاقات المصيرية. غير أن أي بحث تحليلي في معطيات السياسة وأبعادها لا بد من أن يقود إلى إدراك وجود ثوابت.. وأيضا وجود متحولات.
المنطقة شهدت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية جملة من الأحداث المهمة، منها تأسيس جامعة الدول العربية وإعلان دولة إسرائيل، وتبلور انعكاسات الحرب الباردة على المنطقة بإسقاط محمد مصدق في إيران، وعسكرة الأنظمة العربية في ظل محاولات ربط دول الشرق الأوسط بـ"حلف بغداد" ("السنتو" لاحقا) - أحد أحلاف تطويق الاتحاد السوفياتي السابق - وبدء مرحلة "وراثة" قطبي الحرب الباردة أي الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق القوتين المنتدبتين، أي بريطانيا وفرنسا، وهذه المرحلة تأكدت وحسمت بعد "حرب السويس" عام 1956.
موسكو الماركسية - اللينينية، بطبيعة الحال، كانت تخوض معركة "دخول" المنطقة أكثر منها وراثة قوة كبرى مهيمنة كحال واشنطن. فمع أنه سبق لموسكو القيصرية تأسيس صلات دينية وتعليمية (منها المدارس المسكوبية وتقديم منح إلى سيمينارات روسيا وأوكرانيا)، وكان لها صراعات حدودية مع كل من إيران وتركيا، فإن علاقات واشنطن بدول المشرق العربي كانت - خاصة، بعد الثورة البلشفية - أقوى وأعمق من مختلف النواحي، لا سيما المصالح الاقتصادية على رأسها النفط والتجارة والإرساليات التعليمية والجاليات المهاجرة. وحقا، انتهى زمام المبادرة في المنطقة إلى الولايات المتحدة. لها الفعل.. ولغيرها رد الفعل، أو مقاومة نفوذها.
حتى إسرائيل، انتقلت كليا من تحت الرعاية الأوروبية الفرنكو - بريطانية التي أسستها ووفرت لها باكورة تسليحها.. لتصبح، كما عرّفها العرب ذات يوم ولا يزالون، "الولاية الأميركية الـ51".
وعبر العقود، والتجارب بحلوها ومرّها، وأمام خلفية ما كان يحدث في العالم من تغيرات وتبدلات وما كانت تولّده داخل المنطقة من أحلام وإحباطات، يتبين للمحلل الواقعي، حقا وجود ثوابت ومتحوّلات.
وكان في طليعة الثوابت - التي تقلصت لاحقا إلى ثابت واحد وحيد - منع وجود كتلة كبيرة واحدة، أو تكتلات قليلة العدد كثيرة السكان متضامنة متفاهمة تستطيع أن تلعب دورا مؤثرا في حسابات المصالح الدولية. وهذا اعتبار غاية في الأهمية، إذا أخذ في الحساب اختزان المنطقة أكبر احتياطي نفطي في العالم، وسيطرتها على مواقع جغرافية استراتيجية في قلب العالم القديم، على أبواب أوروبا الجنوبية، وعند مدخل آسيا الغربي.
لخدمة هذه الغاية الاستراتيجية الثابتة، طرحت عليها ونفذت فيها مشاريع وخطط عديدة منذ اتفاقيات "الشريف حسين - مكماهون"، وجرى استثمار طموح الحركة الصهيونية، والإحباط التركي، والأحلام الإيرانية. كذلك في شمال أفريقيا، لعبت القوى الغربية الكبرى ورقة التفتيت وتشجيع النزعات الانفصالية وصولا إلى وضع اليد المباشر في حالة الجزائر، والاحتلال الفعلي لبعض أجزاء المغرب.
اليوم دعم إسرائيل بلا تحفظ، بصرف النظر عن الكلام المهذب، هو التجسيد الفعلي لما غدا الثابت الإقليمي الوحيد. ودعم إسرائيل لا يقوم على إسنادها وتجهيزها ورفدها عسكريا وأمنيا وماليا فحسب، بل يشمل تبني منظورها لمستقبل المنطقة ككل، لا سيما بما يخص الكيانات المتاخمة لها. وفي المرحلة الرمادية، أو التجريبية الراهنة، من الواضح أنه رغم كل الشجب والاستنكار والانتقادات للشطط الاستيطاني الإسرائيلي الذي يهدد بنسف أي صدقية لأي خيار تفاوضي سلمي معها، فإن الخيار الأميركي وكذلك الأوروبي هو أن يأتي التغيير المأمول في رسم الأولويات الإسرائيلية من داخل الشارع الإسرائيلي نفسه.
صحيح أن المسؤولين في واشنطن وحليفاتها الأوروبيات محبطون من عربدة غلاة اليمين الإسرائيلي، وهم مدركون الرابط المباشر بين استمرار التطرف الإسرائيلي وتوليد تطرف إسلامي مضاد من شأنه الإضرار بالمصالح الغربية وإجهاض كل فرص السلام الإقليمي، وربما العالمي، غير أنه انطلاقا من ذريعة احترام "الديمقراطية" الإسرائيلية المزعومة تجد واشنطن وحليفاتها الأوروبيات أن لا مجال للفرض والإملاء، ولا بد من انتظار أن يأتي التغيير من قناعات الناخب الإسرائيلي.
والمرجح أنه إذا جاء - وهذه فرضية مفرطة في التفاؤل - يجب أن يأتي عبر الكثير الكثير من الترغيب.. والنزر اليسير من الترهيب.
اليوم، علينا الإقرار بأن معظم ما نرصده من حراك، وكلام عالي النبرة حول إسرائيل، لا يعني في الحصيلة النهائية شيئا إذا كان هذا بالضـــــبط ما تريده إسرائيل، وما أقنعت به "سندها" الغربي الاســـــتراتيجي.. الذي نصرها وسيظل ينصرها ظالمة، ذلك أنهــــــا قلما كانت مظلومة. ولقد وصلت الرسالة إلى الجميع.
لهذا السبب، في الموضوع النووي الإيراني - مثلا - لا استعجال في واشنطن على فرض ما هو أكثر من عقوبات اقتصادية، مع أن مراكز الأبحاث الاقتصادية الأميركية تدرك أن هذه العقوبات قد تبطئ مسار التطوير النووي قليلا، وقد تزعج الشارع الإيراني، لكنها عمليا، وحتى على صعيد عائدات تصدير النفط، لن تغير من الواقع شيئا.
وبالتالي، قد يكون على العالم التعايش مع إيران نووية في غضون سنوات قليلة جدا. وهذا حتما ينطوي على عدالة لا مجال لإنكارها. فكيف يكون لإسرائيل ولباكستان والهند قدرات ردع نووية ولا يكون لإيران؟
عداء إيران، يبقى من المتحولات. ثم إنه من المنطقي جدا تقاسم النفوذ إقليميا في ظل "سلام" دأب حتى بعض أشد "الممانعين" على وصفه بأنه "خيارهم الاستراتيجي". ومن أجله انخرطوا في مفاوضات من دون شروط مسبقة، عبر تركيا.. ومن دون وساطة تركيا.
ولكن الأكيد أن المرحلة الرمادية ستقرر إسرائيل، قبل أي جهة أخرى، متى تطول أو تقصر، ما دام ظل في جيب قادتها التفويض الغربي الإقليمي، وظلت المعبّر الأول والأخير عن اعتبارات الغرب المصلحية.