جريدة الجرائد

الحرب الباردة في الخليج

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

علي الغفلي

فور علمها أن الحكومة الصينية قد أبدت استعداداً جديا لمناقشة فرض المزيد من العقوبات عليها بسبب تعنتها في الملف النووي، سارعت طهران إلى إرسال مبعوثها سعيد جليلي للقاء المسؤولين الصينيين . لا يزال الموقف الصيني بشكل عام متردداً في قبول فكرة التأثير في السياسة النووية الإيرانية من خلال العقوبات، وظل تبرير الصين المعلن لعدم الحماس لفرض العقوبات على إيران بعدم وجود ما يشير إلى أنها سوف تنجح في تحقيق الهدف المنشود من ورائها . على الرغم من ذلك، تشعر وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون بالسعادة لأنها تعتقد أنها نجحت أخيراً في كسب تأييد بكين للموقف الغربي الساعي إلى إقناع طهران بعدم المضي في طريق امتلاك السلاح النووي من خلال فرض العقوبات الدولية .

واقع الأمر أن تقييم خيار فرض المزيد من العقوبات الدولية المتشددة ضد إيران يمكن أن يستند في جزء كبير منه إلى تجربة سابقة، تمثلت تحديداً في العقوبات العميقة التي تم فرضها على العراق . إن كان بالإمكان استخدام تلك التجربة كمؤشر لما يمكن أن يحدث في حالة إيران، فإن الاعتقاد يميل إلى استنتاج أن العقوبات سوف تكون في مجملها أشبه بالمقاطعة الشاملة، وأنها سوف تمتد إلى أكثر من عشر سنوات كي تبدأ في إنتاج التأثير المستهدف، ولكن الآثار الناتجة بالفعل سوف تطال في المقام الأول قطاعات واسعة من الشعب الإيراني، وذلك بالشكل الذي سيطيح بالمؤشرات الاجتماعية والاقتصادية والتنموية، في الوقت الذي سوف تبقى الحكومة الإيرانية المسؤولة متمسكة بسلوك تحدي الإرادة الدولية، الأمر الذي سيجعل المجتمع الدولي يدرك حينها أن العقوبات الدولية المفروضة لم تحقق شيئاً سوى معاقبة الشعب الإيراني بكافة فئاته وفي كافة المجالات الحياتية . لا يوجد ما يشير إلى أن الموقف الصيني قد تحول بشكل جذري وحقيقي، وبالشكل الذي يكفي لأن تنساق بكين وراء الرغبة الغربية في فرض عقوبات جوهرية ومؤثرة وممتدة على إيران، ولا يمكن تصور أن قناعة الصين بعدم جدوى العقوبات قد شهدت تحولا في الاتجاه المضاد، ومن غير المتوقع أن تشعر طهران بالجزع فعلا تجاه أي تغير في موقف الصين، إذ لا بد أن مثل هذا التغير الوارد من الناحية النظرية كان ضمن الحسابات الإيرانية، ولذلك ليس من المتوقع أن تمتد سعادة هيلاري كلينتون طويلاً .

تقود هشاشة خيار فرض العقوبات الدولية الشاملة والعميقة والفاعلة على طهران إلى تناول الخيار الثاني، والمتمثل في قيام ldquo;إسرائيلrdquo; بتنفيذ هجمات عسكرية تستهدف المنشآت النووية الإيرانية . إن خيار القيام بعمليات عسكرية ضد الأهداف النووية الإيرانية هو أمر تستبعده واشنطن، وتكررت تحذيرات إدارة أوباما في الآونة الأخيرة تجاه تل أبيب، مطالبة إياها بعدم التهور بتنفيذ مثل هذه العمليات التي لا يمكن التنبوء بعواقبها .

في المقابل، تتبجح حكومة بنيامين نتنياهو بتكرار مقولة عدم تخليها عن خيار العمل العسكري على المنشآت النووية الإيرانية، وتهدد بأنها لن تتردد في تنفيذها في حال فشلت القوى الكبرى في حرمان طهران من امتلاك السلاح النووي .

يمكن القول أن تقييم خيار العمل العسكري ضد إيران يستند إلى تجارب ldquo;إسرائيلrdquo; السابقة في تنفيذ عمليات مماثلة . لقد قام الطيران الحربي ldquo;الإسرائيليrdquo; بمهاجمة المنشآت النووية العراقية في القرن الماضي، وقام أيضاً بمهاجمة المقار الفلسطينية في تونس، وأيضا بمهاجمة منشآت يشتبه في تورطها بنشاطات نووية في الأراضي السورية . لدى ldquo;إسرائيلrdquo; سجل ناجح في تنفيذ هجمات سريعة ودقيقة ضد أهداف محددة في الدول العربية، نجحت من خلالها في استئصال التهديد الذي كانت تشكله المناطق المستهدفة بالنسبة لحسابات تل أبيب، وفي جميع الحالات نجت الدولة المعتدية بسلام من هجماتها، إذ إن الدول العربية المستهدفة لم تنجح في ردعها، أو التصدي لها، أو الانتقام من ldquo;إسرائيلrdquo; بعدها . بيد أن الأمر قد لا يكون مشابهاً في حالة إيران، إذ إن حرص طهران على استعراض منجزاتها في التصنيع الحربي، علاوة على استعراض قوتها، وتأكيداتها المتكررة على التهديد بالعواقب الوخيمة المترتبة على الدول المعتدية وكافة دول المنطقة المتعاونة معها، من شأن ذلك كله أن يجعل ldquo;إسرائيلrdquo; تستوعب صدقية الردع الإيراني، وتدرك قدرات التصدي والانتقام المتوفرة لديها، تماما كما تدرك ذلك واشنطن، وأيضاً دول الخليج التي تؤكد على عدم اقتناعها بالدخول في مواجهات عسكرية مع الجارة إيران .

إن خيار العقوبات الدولية غير فعال، وبديل العمل العسكري غير مأمون، ونهج الحوار الدبلوماسي المطبق حاليا غير مجد، الأمر الذي يحتم علينا التفكير بالاحتمال الأكثر واقعية، وهو أن تشهد منطقة الخليج حرباً باردة ستمتد عدة عقود قادمة . إن معظم عناصر الحرب الباردة متوفرة في المنطقة، ويمكن للسرد السريع أن يذكر في هذا الخصوص الخلاف الأيديولوجي على الصعيدين السياسي والثقافي المستفحل بين إيران ودول الخليج العربية، والإنفاق العسكري الضخم جدا الذي تبذله دول المنطقة في المعسكرين، وامتلاك القوى الإقليمية الخليجية الكبرى عناصر التأثير في أطراف ثالثة يمكن من خلالها إدارة علاقات الصراع، من دون أن تشتبك هذه القوى الكبرى في حرب عسكرية مباشرة .

ليست الحرب الباردة خياراً مثالياً أو مرغوباً، ولكنها تمثل الاحتمال الأكثر قبولاً من خيار العقوبات الدولية التي لن تدفع بطهران إلى العدول عن أهدافها النووية وستطال عواقبها التجارية دول الخليج، والأكثر تفضيلا من بديل العمل العسكري الذي من شأنه أن يضيف حرباً ساخنة أخرى إلى المنطقة التي شهدت ثلاثة حروب خلال ثلاثة عقود، ولن تجلب سوى الدمار إلى دول وشعوب الخليج . إن كان تصور أن تسود حقبة الحرب الباردة في منطقة الخليج خلال العقود القادمة منطقياً، فإنه يعني أننا مقبلون على ترتيبات أمنية قد تمتلك من خلالها إيران من جهة ودول الخليج العربية من جهة أخرى قدرات نووية من درجة معينة، تحقق على أقل تقدير منظومة ldquo;توازن الرعبrdquo;، الذي يمكن أن يكون كافياً لمنع نشوب صراع مسلح، وربما يدفعهما إلى التعاون، أو على أقل تقدير يفرض الاحترام المتبادل بينهما . يحتاج احتمال الحرب الباردة في الخليج إلى التقييم العميق، ويمكن لمثل هذا التقييم أن يستفيد من دروس تجربة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، إذ إن نجاح الردع النووي في تلك الحالة لا يعني تلقائيا أن الردع النووي يجب أن ينجح في الحالة الخليجية .


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف