الانتخابات السودانية... هل هي حرث في البحر؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
يوسف نور عوض
مضى أكثر من ستين عاما منذ نال السودان استقلاله، وتلك فترة طويلة كان ينبغي أن يوضع فيها الأساس المتين لبناء دولة قوية تعتمد على موارد السودان العظيمة، ولكن حتى هذه المرحلة فقد ظل المشهد السياسي السوداني قابعا في مربعه الأول، وكأن شيئا لم يحدث في البلاد خلال هذه الحقب الطويلة من الزمن. وهنا لا نغفل في رؤيتنا دور الانقلابات العسكرية في استمرارية هذا الوضع، غير أن الأمر لا يتعلق فقط بالانقلابات العسكرية بل يتجاوز ذلك إلى القصور في تصور ما ينبغي أن يكون عليه الوضع في السودان.
وعند النظر إلى مراحل الحكم في تلك البلاد نبدأ بالمرحلة الأولى الأولى التي أعقبت الاستقلال، والتي كان المشهد السياسي فيها منقسما بين تيارين، أحدهما يدعو إلى وحدة وادي النيل، وهي الاتحاد بين مصر والسودان، وكان الذي يقف وراء هذه الدعوة الحزب الاتحادي الديمقراطي الذي دعمته مصر منذ كان يسمى الحزب الوطني الاتحادي، وظل هذا الحزب يجد سندا قويا من طائفة الختمية برعاية السيد علي الميرغني، وأما ثاني التيارين فهو الذي كان يسعى لاستقلال السودان ودعامته حزب الأمة برعاية السيد عبد الرحمن المهدي زعيم طائفة الأنصار، وهي الطائفة التي استندت عليها ثورة الإمام المهدي في القرن التاسع عشر وتمركز نفوذها في دارفور وكردفان، وأيضا في الجزيرة 'أبا'، وعلى الرغم من أن الكثيرين ظلوا ينظرون إلى النظام الطائفي على أنه نظام مؤقت ولا يستجيب لدواعي التقدم في العصر الحديث، فإن الحقيقة هي أن الطائفية بالرغم من كل النقد الذي وجه لها، كانت تشكل عنصرا مهما في توحيد الشعب السوداني في مختلف أقاليمه باستثناء جنوب البلاد.
وعلى الرغم من هذا الاختلاف الواضح في التوجه بين التيارين فلم تكن ثمة رؤية واضحة عند الطرفين، بدليل أن الحزب الاتحادي الديمقراطي تخلى بسهولة عن دعوة الوحدة مع مصر واعتبر ذلك انجازا وطنيا مهما، كما أن حزب الأمة الذي دعا للاستقلال لم تكن لديه الرؤية الكافية لتدعيم هذا الاستقلال بدليل أنه في عهد حكومته سلم السلطة لأول انقلاب عسكري هو انقلاب السابع عشر من تشرين الثاني/نوفمبر بقيادة الفريق ابراهيم عبود الذي قاد انقلابا لم يطرح أي تصور لبناء السودان الجديد، وفي عهده تفاقمت ثورة جنوب السودان التي لم يحاول النظام حلها بالطرق السلمية بل سعى إلى مواجهتها بالأساليب العسكرية التي عمقت الفجوة بين شمال السودان وجنوبه وأسهمت في وضع الأساس المتين لدعوة الانفصال في جنوب السودان. ولم يختلف الوضع كثيرا في ما بعد حين تقلب الحكم بين حكومات مدنية تسعى إلى السلطة وحكومات شمولية ليس في رؤيتها سوى أن تضع الحكم في أيدي العسكريين مع توجيه النقد لكل ما هو مدني، كما كان الشأن في عهد حكم ما سمي بثورة مايو التي قادها الرئيس الراحل جعفر نميري.
ولم يختلف الأمر كثيرا عندما جاءت أيضا ثورة الإنقاذ وهي ثورة لا نقول إنها انطلقت من مفهومات إسلامية، إذ الحقيقة هي أنها رفعت الشعارات الإسلامية دون أن يكون للإسلام مكان في فكرها أو سياساتها بدليل أنه بعد ربع قرن من حكم الإنقاذ لم يتبلور المشروع الإسلامي الذي دعت إليه، ولم يوضع ـ هذا المشروع ـ موضع التطبيق، وما زال الكثيرون من الذين فقدوا وظائفهم في بدء هذا الحكم يئنون من الفقر وضيق ذات اليد بينما يتذكر الكثيرون ما عانوه في بيوت الأشباح، حدث ذلك في الوقت الذي استأثر فيه الكثيرون من رجال الحكم وأبنائهم بالثراء غير المشروع، وبعد هذه المدة الطويلة خرج النظام بمشروع الانتخابات التعددية التي تتابعها قنوات الإعلام باهتمام كبير، ويتركز الأمر كله على من سيشارك ومن سيمتنع دون أن تثار الأسئلة الأساسية التي من بينها، ما الذي يدعو إلى هذه الانتخابات وما الهدف من ورائها، وكيف ستعالج الانتخابات القضايا الأساسية في البلاد مثل قضية الجنوب وقضية دارفور؟ كل تلك أسئلة مهمة ولكن لا أحد توقف عندها.
وليس هناك اعتراض من حيث المبدأ في أن يقيم أي نظام انتخابات عامة لمعرفة رأي الشعب في من يحكمه، ولكن مثل هذه الانتخابات قد تكون عديمة الفائدة إذا لم يصاحبها نظام أو ظروف تجعل منها انتخابات ذات قيمة حقيقية، وذلك ما يجعلنا نشك في أن الكثيرين في السودان ما زالوا يعتقدون أن مثل هذه الانتخابات عديمة الجدوى لأن الانتخابات لا تمثل وحدها صورة الديمقراطية، إذ لا بد أن يكون النظام السياسي كله قائما على الأسس التي يقوم عليها نظام الدولة الحديثة وهي التي تكون الكلمة العليا فيها للقانون والنظام المؤسسي كما هو الشأن في سائر الدول الديموقراطية، أما أن يكون النظام السياسي معتمدا في أساسه على سلطة الحكام فهذا ما لا يضع أساسا سليما لإقامة نظام ديمقراطي.
وما يدعو إلى القلق في السودان أنه على الرغم من تفاقم المشكلات في جنوب البلاد، وإعلان زعمائه أنهم لا يرغبون المشاركة في انتخابات الشمال، لاعتقادهم أن نتيجة الانتخابات لن تكون ذات جدوى بالنسبة لهم بكونهم مصممين على الانفصال، كما أن الوضع في دارفور لا يقل تأزما، نقول على الرغم من كل ذلك، فنحن نجد الحكومة تسعى من أجل خوض هذه الانتخابات وكأنها تمثل حزبا حقيقيا، وذلك اعتقادا منها أنها ستكتسب شرعية جديدة تبرر لها الاستمرار في الحكم لسنوات طويلة قادمة إذا أتيح لها ذلك.
ويبدو المشهد في مجمله كوميديا أكثر منه حقيقيا لأنه لو نظرت أحزاب ما تسمى بالمعارضة إلى هذا الواقع بصورة موضوعية لتساءلت ماذا سيكون الأمر لو أن رئيسا منها قد وجد طريقه إلى القصر الجمهوري، فهل سيعمل هذا الرئيس في إطار نظام قائم لا ينتمي إليه؟ وماذا لو فاز معظم مرشحي المعارضة في الانتخابات البرلمانية والولائية، فهل سيقبلون العمل في إطار نظام سياسي لا ينتمون إليه أيضا؟ ربما كانت أحزاب المعارضة تعتقد أنها ستكون قادرة على الفوز وبالتالي تتم تصفية النظام بوسائل ديمقراطية على الرغم من أن كل الدلائل تؤكد غير ذلك، فالنظام يخوض هذه الانتخابات بقوة والمتابع لوسائل الإعلام السودانية يجد أنها تركز على دعم مرشحي حزب المؤتمر الوطني الحاكم الذي هو ليس حزبا حقيقيا بل هو تنظيم سياسي يصرف أمور النظام الحاكم، وهو في الوقت ذاته لا يمتلك قواعد شعبية خارج التنظيم نفسه، وعلى الرغم من ذلك فسوف يفاجئ هذا النظام الكثيرين حين يجدون أن الفوز سوف يكون من نصيب هذا الحزب الذي يريد أن يكتسب مشروعية يستمر بها فترة غير محدودة من الزمن.
ونلاحظ في الوقت ذاته أن هناك أصواتا في داخل الأحزاب التقليدية ترتفع منادية بضرورة أن تكون ثمة حكومة قومية تهيئ للانتخابات حتى تضمن حياديتها، ويبدو ذلك مقبولا من الناحية النظرية، ولكنه ربما لا يخدم غرضا موضوعيا في ظل الوضع السياسي المعروف في السودان، ذلك أن معظم الأحزاب التي يعتقد الكثيرون أنها أحزاب ديمقراطية لا تعدو أن تكون امتدادا للوضع الطائفي الذي كان سائدا قبل الاستقلال وبعده، وهي لا يمكن أن تستمر على هذا النحو بعد التحولات الكثيرة التي حدثت في البلاد، فمن ناحية نجد أن الحزب الاتحادي الديمقراطي الذي يمثل الطبقة الوسطى في البلاد يكاد أن يكون قد اختفى أو تفتت، أما حزب الأمة فلم يترك له التمرد في دارفور الكثير من قواعده القديمة، وفي جميع الأحوال، فإن الأمر لا يستدعي تطوير هذه الأحزاب بل يستدعي وجود نظام جديد تتأسس عليه أحزاب حقيقية، وهذا أمر عسير في الوقت الحاضر لأنه مع تراجع النفوذ الطائفي فقد تعالت النزعات القبلية والعرقية والجهوية وهي نزعات قويت بدرجة كبيرة وهي مسؤولة في الوقت الحاضر عن حالة التمزق التي تعاني منها البلاد، وبالتالي فإن انتظار نتائج الانتخابات المقبلة سيكون حرثا في البحر لأنه إذا لم تكن هناك انتخابات بسبب المقاطعة فإن الأمر لن يحدث فيه تغيير كبير، وإذا كانت هناك انتخابات في ظل هذا الواقع الممزق فسيكون الفوز للنظام القائم وعندها ستبدأ مرحلة أخرى ربما تتسم بغير قليل من العنف، وهذا وضع في تقديري يجب أن تأخذه مصر في الاعتبار لأنه لن يؤثر على السودان وحده بل سيؤثر عليها أيضا.