في المشروع النهضوي العربي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
يوسف مكي
يكتسب هذا الحديث عنوانه من المشروع الذي طرحه مركز دراسات الوحدة العربية في شهر فبراير/شباط المنصرم . وقد كرسنا في السابق عدة أحاديث لمناقشة مشروع النهضة، سواء من خلال الدعوة لتجديد الفكر القومي، أو الأحاديث التي تناولت تجديد مشروع النهضة، أو القراءة الارتجاعية لتجربة الوحدة . هذا الحديث، وأحاديث قادمة أخرى، سيكون مكرسا لمناقشة المشروع النهضوي في الصيغة التي طرحها ldquo;مركز دراسات الوحدة العربيةrdquo; تحت عنوان هذا الحديث .
وقبل الولوج في مناقشة المشروع، يجدر التنبه إلى أن المشاريع النهضوية، شأنها شأن المشاريع الإنسانية الكبرى، لا تتكون بين ليلة وضحاها، ولا تكون حاصل مماحكات صورية لفظية، وتصورات ذهنية فحسب، بل هي نتاج التحام مباشر بالتاريخ، ووعي لقوانين حركته . وتأتي في محصلتها استجابة لواقع موضوعي أنشأه التاريخ . ولأن التاريخ حركة فوارة، بمعنى السيرورة، فإن مشاريع النهضة ذاتها ليست ساكنة، وخاضعة أيضا للقانون الثلاثي للجدل: الفكرة والنقيض والطريحة .
في هذا السياق، لعلنا لا نأتي بجديد حين نؤكد أن الأمة العربية، في عصرها الحديث، شهدت محاولات جادة اضطلع بها أفراد وجماعات، لصياغة مشروع نهضوي عربي، برز في شكل حركة تنوير، عبرت عن نفسها في حراك أدبي وفكري وسياسي على نطاق واسع، قادت حركته نجوم أصبحت في مقدمة ما نعتز به في موروثنا المعاصر: المعلم بطرس البستاني، ابراهيم المويلحي، رزق الله حسون، أحمد فارس الشدياق، ميخائيل عبد المسيح، محمود شكري الألوسي، الشيخ جمال الدين الأفغاني، الشيخ محمد عبده، محمد فريد، قاسم أمين، أحمد لطفي السيد، قاسم أمين، الشيخ طاهر الجزائري، الشيخ حسين الجسر، محمد كرد على، عبدالحميد الزهاوي والشيخ محمد رشيد رضا، والأمير شكيب أرسلان، ومحمد بيرم التونسي، والطاهر بن عاشور، ورفاعة رافع الطهطاوي، وعبدالرحمن الكواكبي، وكثيرون غيرهم .
وقد ركزت كتابات عصر التنوير، على محاور عدة من ضمنها الدعوة إلى الوحدة بين المسلمين، وإزالة الفروق بين المذاهب الإسلامية، والمناداة بتحرير العقل من الخرافات والأوهام، ودعم العقائد بالأدلة والبراهين، وتحرير الفكر الديني من قيود التقليد وفتح باب الاجتهاد . كما تبنى قادة عصر التنوير الدعوة إلى النهوض بالبلاد، والثورة على المستعمرين، والتحرر من الاستبداد والاضطهاد السياسي الداخلي .
ارتقت تلك البدايات في مراحل لاحقة، لترقى إلى التعامل مع فكرة الربط بين الوطنية والحرية، حين دعا رفاعة رافع الطهطاوي إلى أن يكون الوطن مكان السعادة العامة التي تبنى من خلال الحرية والفكر والمصنع . مشيراً إلى أن أهمية وحدة الوطن، تحت قيادة قائد واحد، وشريعة واحدة وسياسة واحدة . وكان كتاب الكواكبي، ldquo;طبائع الاستبدادrdquo;، صرخة مدوية، ولبنة قوية على طريقة صياغة مشروع نهضوي جديد، مبينا أن الاستبداد هو أساس المساوئ، كونه ينفي العلم ويفسد الدين والأخلاق والتربية .
وهكذا يمكن القول إن فكرة الوطنية في عصر التنوير العربي الأول اتكأت على ثلاثة عناصر: الوطن والحرية والدولة، يتجاذبها موقفان فكريان، عبّر الأول عن مزج بين الموروث الإسلامي، وربط هذا الموروث بالفكر السياسي الحديث، ونهج آخر، وضع المقدمات الأساسية لمرحلة اليقظة العربية، مركزا على أن العرب أمة واحدة، لها خصائصها، وأن العروبة هي الرابطة الأساسية، مشددا على الصلة الوثيقة بين الإسلام والعروبة .
وذهب البعض الآخر إلى القول إن الإسلام قام وازدهر بالعرب، وإن السبيل للنهضة في هذا الجزء من العالم، لن تتحقق إلا بعودة الدور القيادي للأمة العربية، لتتطور في مراحل لاحقة إلى رؤية نظرية وممارسة في البدايات الأولى للقرن العشرين .
وقد حدث ذلك بشكل خاص، بالمشرق العربي . حين تمكنت حركة اليقظة العربية، من التعبير عن أفكارها وتطلعاتها، مع بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر، متأثرة إلى حد كبير، بالحركة القومية الأوروبية، وبالأفكار الليبرالية التي ارتبطت بها . وكانت حركة اليقظة استجابة لواقع موضوعي، وردة فعل على محاولات التذويب والاضطهاد التي مارسها الولاة الأتراك، واحتجاجاً على التنظيمات الإدارية، وتوجهات ldquo;حركة تركيا الفتاةrdquo; التجديدية في العام نفسه، والتي كان من نتائجها التأكيد على خلق نزوع شوفيني معاد للتقاليد الإسلامية .
منذ الثلاثينات من القرن المنصرم، نشأت حركات قومية، في بلاد الشام استلهمت رؤيتها من إرث التنوير، وبنت عليه منطلقاتها السياسية، مركزة على الربط بين القومي والسياسي والاجتماعي، من خلال الربط بين شعارات الوحدة والحرية والعدالة الاجتماعية .
ما يميز المشروع النهضوي العربي، الذي طرحه ldquo;مركز دراسات الوحدة العربيةrdquo;، أنه يأتي بعد فترة انقطاع، وشلل أصاب النظام العربي، وبدأت اسقاطاته واضحة بعد نكسة الخامس من يونيو/حزيران عام 1967م، وكانت ملامحه قد اتضحت بقبول فكرة الصلح مع الكيان الصهيوني الغاصب لأرض فلسطين، والتراجع الصريح عن شعارات النهضة ومشروع العدل الاجتماعي، واتساع الفروقات بين الغنى والفقر، وسقوط الأقطار العربية، فرادى ومجتمعة لسياسات قوى الهيمنة، وبروز خطاب سياسي متواطئ مع حالة التجزئة، ومعاد للتطلعات القومية في الوحدة والتحرر . وكان وقوف العرب، حكومات وشعوبا، في وضع بائس، غير قادر على الفعل، أثناء ذبح المقاومة الفلسطينية في بيروت عام 1982م، وعجزهم الفاضح أمام صيحات أطفال فلسطين، في مذبحة صبرا وشاتيلا، والانهيارات التي شهدتها الأمة، وبشكل خاص منذ عام 1990 هي التعابير الفاضحة عن سيادة حالة العجز .
كان وعي ldquo;مركز دراسات الوحدة العربيةrdquo;، لأهمية صياغة مشروع نهضوي عربي جديد، يتخطى التشرنق في الأفكار الفئوية الضيقة، ويكون نتاج تفاعل مختلف التيارات الفكرية الحية السائدة بالوطن العربي، قد دفع به، منذ عام ،1988 لعقد ندوات مكثفة من أجل التوصل إلى صياغة مشروع نهضوي . وكانت الفكرة قد تبلوت لدى المركز بعد انتهائه من انجاز مشروعه العلمي الذي حمل عنوان: مشروع استشراف مستقبل الوطن العربي، الذي أكدت ثناياه، على الحاجة إلى مشروع نهضوي عربي . ومنذ ذلك الوقت أدرج المركز، ضمن مخططه العلمي الموضوعات والقضايا ذات الصلة المباشرة وغير المباشرة بالمشروع النهضوي، ومنحها أرجحية في إصداراته وندواته . واعتبرت تلك الخطوات مقدمات لازمة لتأمين مواد علمية يبنى عليها لبلورة المشروع بصيغته النهائية .
كيف تطور العمل لاحقاً، ضمن أنشطة المركز، لإنجاز المشروع، وما هي المبادئ التي ارتكز عليها، والتيارات الفكرية التي أسهمت فيه ستكون مواضيع للمناقشة في أحاديث قادمة بإذن الله .