أزمة لبنان: طوائف أقوى من الدولة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
سليمان تقي الدين
منذ خمس سنوات لم تقدم موازنة الدولة إلى المجلس النيابي لإقرارها وفقاً للدستور . ليست هناك أية أعذار أمنية بل هناك أسباب سياسية . يحتاج إقرار الموازنة إلى توافقات حول مشاريع الوزارات المختلفة وإلى تفاهم على السياسة المالية العامة المتعلقة بالجباية والانفاق ومعالجة المديونية العامة . القاعدة التي تحكم السياسة المالية منذ أكثر من عقدين هي تحميل المواطنين عامة أعباء النهوض بمشكلات الدولة وعدم المس بالفئات صاحبة الامتيازات . ما يزال لبنان يعتمد على الضريبة غير المباشرة التي تطاول الاستهلاك الشعبي ولا يعتمد سياسات ضريبة تطاول المداخيل الكبرى .
رغم الحديث عن النمو لم تتراجع نسبة المديونية بل هي في تزايد مستمر . هناك سعي لدى القوى السياسية إلى زيادة حصتها من مالية الدولة أو المحافظة على وتيرة سابقة في الانفاق السياسي . تضغط الحكومة على حقوق الفئات الاجتماعية الوسطى والفقيرة ولا تستجيب لمطالب تصحيح الاجور والرواتب كما حصل مع قطاع الأساتذة والمعلمين . ليس هناك أولويات اقتصادية للموازنة بل مجرد تركيب حاجات مختلفة ومتناقضة للوزراء لإرضاء جمهورهم الانتخابي . لم تستطع الدولة أن تقر البطاقة الصحية الموحدة، ولم تضع معايير للخدمات الاجتماعية التي تؤديها . ورغم الاختلالات الواسعة في الإدارة والشغور في الكثير من كوادرها هناك الكثير من الموظفين الذين لا يقدمون عملاً فعلياً .
واجهت الحكومة استحقاق الانتخابات البلدية المحدد في مطلع الربيع الحالي فغرقت في مناقشات ومتاهات حول بعض الاصلاحات الجزئية تمهيداً لإيجاد مبررات لتأجيل الانتخابات . الصندوق البلدي المستقل يقتطع جزءاً من الرسوم لصالح البلديات وهذه تستخدم من قبل الجهات السياسية النافذة . معظم القوى السياسية لا ترغب في تحديث القانون البلدي لزيادة فعالية التمثيل والمشاركة . تحولت المواجهة حول القانون البلدي إلى معركة سياسية وغابت عنها عناوين التنمية . ورغم عدم وجود نصاب طائفي في البلديات هناك من يدفع في اتجاه ذلك . كعناوين الإصلاح يجري إغراقها بالنزاع الطائفي . الجهات التي مارست المعارضة من قبل انضوت في الحكومة وتخلّت عن أفكارها الإصلاحية . تصدت هذه القوى لتعطيل تنفيذ البنود الإصلاحية من ldquo;الطائفrdquo; ومنها تشكيل الهيئة الوطنية العليا لإلغاء الطائفية واللامركزية الإدارية وإصلاح القضاء . تصر القوى السياسية على اشغال اللبنانيين بالعناوين السجالية والخلافية حول الخيارات الوطنية والإقليمية .
بعد ثلاثة عقود من وقف الحرب الأهلية لم ينجز ملف عودة المهجرّين، ولم تبت الدولة مصير الأملاك البحرية التي تغتصبها قوى نافذة من دون أي مردود للدولة . المرافق الحيوية التي تحتكرها الدولة توزع امتيازات استثمارها، لم تحصل أية مراجعة لموارد هذه المرافق ولا هذه الامتيازات في المرافئ البرية والبحرية والجوية . تجمع أطراف الحكومة على زيادة الضريبة على القيمة المضافة وتختلف على نسبتها وانفاقها على القطاعات والوزارات . أجهزت سياسات الدولة على القطاعات المنتجة وأفرغت الارياف من سكانها ومركزت مجالات العمل والخدمات في العاصمة التي تختنق بضغط السير يومياً .
حكومة الوحدة الوطنية لم توفر ضمانة لمعالجة ldquo;أولويات الناسrdquo; كما ادعت في البيان الوزاري . أحالت السياسة الدفاعية إلى هيئة الحوار الوطني ولم تنجح في تحريك الإدارة . تنشغل اليوم في دراسة ملف الاتفاقات اللبنانية السورية لكنها لا تملك وجهة واحدة . تتصدر العناوين مسائل شائكة عن ترسيم الحدود والسلاح الفلسطيني خارج المخيمات وشكل التعاون بين المؤسسات الرسمية . لا تشارك الهيئات الاقتصادية والمهنية في اقتراح مشاريع لتطوير العلاقات التي يفيد منها لبنان في الأسواق السورية .
لا يستطيع لبنان أن يعالج أزماته إلا بالتوافق مع سوريا في الشأن الإقليمي . هذه كانت تجربة الرئيس فؤاد شهاب بعد أحداث ،1958 هناك هوامش كبرى من الاستقلال بين إدارة الدولة في الداخل وبناء علاقات سياسية سلمية مع سوريا . ما يرفع منسوب الاستقلال اللبناني هو تقوية الولاء للدولة وشعور كل الجماعات بالأمن والحماية والحرية وعدم الغبن . ينعكس النزاع على السياسات الخارجية والإقليمية ضعفاً في وحدة الدولة والمجتمع . لم يختر اللبنانيون موقعهم هذا ولا يخفف من مشكلات هذا الموقع إلاّ الإقرار بأن لسوريا مصالح أمنية تجب مراعاتها طالما هناك على الجانب الآخر من الحدود تحديات المشروع العدواني الصهيوني . منذ قيام الكيان الصهيوني لم يعد أمام لبنان إلاّ حدود طبيعية واحدة مع سوريا، ولا استقرار في لبنان من دون تطبيع هذه العلاقات . هذه وقائع وتجارب وليست أمنيات ولا رغبات . بعد خمس سنوات من أزمة العلاقات اللبنانية السورية ثبت مجدداً ان الاستقلال اللبناني مشروط بالوحدة الوطنية . لم يتوقف الغرب عن تحريض بعض القوى لوضع لبنان خارج محيطه العربي تحت ذرائع مختلفة . يلقى هذا التحريض صدى لدى جماعات طائفية تعتقد أن انضواءها في هكذا مشروع يحسن موقعها داخل الدولة . جربّت هذا من قبل ولم تنجح لكنها ما زالت تراهن لأن النظام الطائفي يشجعها على ذلك . تبادل مشاعر الخوف والغبن والهيمنة يعزز هذه الخيارات . الوطنية اللبنانية هشّة وضعيفة ومازال اللبنانيون يقرأون تاريخهم كمشاريع مختلفة لتطور طوائفهم . الدولة ضعيفة أمام سطوة الجماعات الطائفية وهي تقف عاجزة عن بناء سيادة القانون . جزء كبير من الأمن يجري بالتراضي، وتقاسم السلطة يفتح خطوط الطوائف على الخارج على حساب مفهوم الدولة والسيادة . يتمتع زعماء الطوائف بالحصانات أسوة بالرؤساء في المؤسسات الدستورية . لا يتقدم مفهوم الدولة في لبنان إزاء هذا الفرز الطائفي على أساس الرعايا كل المواطنين . ولن يستقر لبنان طالما هناك نزاعات إقليمية تغذي أوهام الطوائف ومشاريعها .