نفي الآخر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
عبيدلي العبيدلي
في مقالته المعنونة "صورة الآخر في الشعر العربي الكلاسيكي"، يستحضر شاكر لعيبي بيتين للمتنبي يقول فيهما:
لا تشتر العبد إلا والعصـا معه
إن العـبيد لأنجاسٌ مناكيدُ
من علّم الأسْودَ المخصيَّ مكرمة
آباؤه البيض أم أجداده الصيدُ
ويبني لعيبي على ما جاء في البيتين، وأمثلة أخرى أطروحة متكاملة تكشف السلوك العربي في نفيه للآخر، سواء كان مصدر ذلك النفي الاختلاف في الجنس أو اللون أو حتى السلوك الاجتماعي، مشيرا إلى أن ما جاء فيهما من دعوى "لا تتعلق بالماضي لوحده، لأنها تـمسُّ الحاضر وهما مثال فادح في النفي". ويستطرد لعيبي في استعانته بالكثير من الصور في الإنتاج الإبداعي العربي، كي يثبت تغلغل نفي الآخر في موروث الثقافة العربية. ومن بين ما يلجأ إليه، بالإضافة إلى بيتي المتنبي، "موقف الشاعر العربي التقليدي من العلوج (علوج الروم التي طالما استحضرها أبو تمام والبحتري وغيرهما الكثير) ومن الصقالبة ومجمل سكان الإمبراطورية البيزنطية، كان يتميز بالنوع ذاته من التوتر والتعالي، وهو يستحث مواقف الجبن والانخذال والخزي لديهم، كما يسخر أحيانا من صهبة ألوانهم ويعتبرها رديفا لضعف أصلي كامن في وجودهم الداخلي والفيزيقي".
وكما يبدو فليس نفي الآخر محصورا في الحقل الثقافي العربي، بل يتسع كي يشمل الأفق السياسي، وعلى نحو أشد وأكثر قسوة. هذا الأمر نجده في مقالة طويلة عنوانها "منطق الجوهر الصراعي تحويات الصراع والتناقض... وفق منطق الجوهر النافي الديالكتيكي والبراغماتي"، نشرها موقع "مدرسة دمشق المنطق الحيوي" يقول فيها، جاء فيها، "وفي التاريخ العربي الإسلامي فإن النكوص إلى مستوى تحويات منطق الجوهر العنصري ضمن فئويات قبلية وإقليمية وقومية مغلقة من قوى الشخصنة أدى إلى تجميد العالم العربي الإسلامي وبخاصة في مراحل ضعف السلطنة العثمانية بعد أن عجزت في امتلاك أدوات البارود والنقل التجاري بشكل كاف".
وفي بحث نظري مكثف، آخر، حول مسألة النفي هذه، يقول محمد إسماعيل زاهر في مقالة عنونها "نفي الآخر بحثا عن وجود الرحلة... كشف عن قبح الذاكرة"، وينطلق فيها زاهر من أن "المعرفة قوة"، كما يعتبرها الفيلسوف فرانسيس بيكون، ويرى زاهر رحلة المعرفة، ومن منطلق فلسفي محض، أنها أمر "يتعلق بخروج الإنسان من أناه إلى سواه. عندما بدأ الإنسان يفكر في العالم من حوله ويتلمس خطاه في الواقع المحيط به بدأت رحلته الذهنية الكبرى".
أما باسنت موسر، ففي مقالتها المعنونة "الآخر... الحوار... المواطنة... فى رأي سمير مرقص"، تحاول أن تقرأ العلاقة بين المسلمين والمسيحيين العرب، من خلال فهم أحدهما للآخر والقبول بالتعايش معه، منطلقة من احتياج كل منهما للحوار الذي يحقق "مواطنته أو إنسانيته"، مؤكدة، أنه "ربما لأننا لا ندرك الآخر في أحيان كثيرة ولا نتحاور معه نتخذ ضده مواقف وسلوكيات عصبية غير مفهومة". وتقتطف موسر مقطعا من مقولات سمير مرقص التي يرى فيها أن "العلاقة بين الذات والآخر هي من العلاقات المركبة على المستويين الفردي والحضاري فالذات مهما بلغت من ثراء وخبرات تظل في حاجة ماسّة لأن تعبر حدودها الذاتية للآخر لأن ذلك العبور للآخر يساعد الذات على أن تكتشف مواطن القوة بالآخر ومواطن الضعف لديها".
محطة أخرى بشأن نفي الآخر يأخذنا لها معين أحمد المطيري، الذي ينقل ملخصا مكثفا لحوار دار بين مجموعة من المفكرين العرب في العام 2009، تناولوا مسألة "اختلاف وجهات النظر دافع للانفتاح على الآخر"، ويكشف المطيري من خلال نقل بعض ما جاء على لسان حسن العودات، الكثير مما يعانيه المثقفون العرب من تسلط القوى السياسية، حكاما ومعارضة عليهم، ومحاولتها التي لا تكف لنفيهم وتجاوزهم. نجد العودات يستخلص، بعد مقدمة طويلة أن مرحلة التضاد "ليست حوارا لأن التضاد هو نفي الآخر، والآخر غير موجود في الثقافة العربية، لأن أهم شرط بالحوار هو الاعتراف بحق الآخر، كن مثلي أو أنت خارج، عقلية الحضور الآخر غير موجودة لأن فكرة الحرية لم تنتصر كوعي ذاتي، فتأسيس، ثقافة حوار دون الاعتراف باستقلال الأنا مستحيل، وثقافة دون هاجس الأنا لا يمكن أن تتم". مشارك آخر في تلك الندوة هو أحمد برقاوي، يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك في تشخيصه لممارسة المثقفين العرب، والقوى السياسية العربية لنفي الآخر، فنجده يقول، بعد أن يقتطع مقولة أحد الفلاسفة بأن العلم ليس إلا تاريخ من الأخطاء، بأن "العنصر السائد في الثقافة المعاصرة هو العقلية الفلاحية، هي عقلية الملكية الضيقة، وهذا ينطبق على المثقفين أصحاب ملكية ثقافية، لأن الأفكار الملكية أصبحت مقدسة وبالتالي لا يمكن الحوار بالأفكار المقدسة".
ويكاد أن يكون نفي الآخر عنصرا رئيسيا من عناصر السلوك العربي، ويشمل ذلك مختلف الفئات والإيديولوجيات، ففي نقده للإعلام الطائفي نجد أحمد لاشين، في مقالته "نفي الآخر الإعلام الديني وأوهام جنرالات الطائفية" يسترسل في تشخيص مظاهر الإعلام الطائفي في نفيه للآخر كي يصل في نهاية المطاف إلى القول، بأن الإعلام الطائفي يعتمد بشكل رئيسي على "عنصرين أساسيين، أولهما تجميل الذات إلى أبعد حد ممكن، ثانيا نفي الآخر وتكفيره وإخراجه من دائرة الرحمة الإلهية".
كثيرة هي الحالات التي يتمظهر فيها السلوك العربي النافي للآخر والمتمسك بصحة الأنا وخطأ الآخر، ناسفا من خلال ذلك السلوك التي تغلب عليه ثقافة المجتمعات البدوية تلك الحاجة لاكتشاف الآخر من أجل التعايش معه، من تجسير تلك العلاقة الجدلية بين "الأنا" و "الآخر"، هذه العلاقة، كما يقول البعض هي "علاقة شرطية وجدلية بين الذات والآخر حيث أن الآخر شرط لتحرر الذات من الذاتية العمياء التي لا ترى إلا نفسها".
لقد بتنا في عصر يفرض علينا أن نعترف بالآخر، لأن في نفيه نعرض أيضا ذاتنا للنفي. ففي مجتمعات اليوم وعندما ينكسر إطار الصورة المتكاملة لكليهما معا، يفقد المجتمع ركيزة أساسية من ركائز تقدمه، وحينها لا يبقى أمام ذلك المجتمع سوى خيار واحد، هو التراجع فيما يتقدم الآخرون، وليس هناك من يريد أن يساهم في جر مجتمعه نحو ذلك المصير.