بين السلطة والدولة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
مصطفى الكاظمي
المشهد رمادي في عراق ما بعد الانتخابات، لكن الأفق ليس مسدودا، ولو أن الضوء خافت حتى الآن في نهاية النفق. وليس صعبا أن نتلمس الطريق إلى هذا الومض، وأن نضيء شمعة ولو صغيرة عوضا عن أن نلعن الظلام.
يحفزنا على الأمل أن في العراق، إلى جانب رجال السلطة، رجال دولة، وهم من معدن لا يساوم على الحق، وعلى ما فيه مصلحة الوطن. والتاريخ حافل بالأسماء الكبيرة التي صنعت أقدار أوطانها، من جورج واشنطن إلى دوايت أيزنهاور، إلى المهاتما غاندي، إلى شارل ديغول.. إلى نلسون مانديلا. أصوات هؤلاء تعلو اليوم ما عداها من أصوات، في غمرة التناهش بين القوى السياسية على المواقع والمناصب واحتكار القرار في عراق ما بعد صدام.
المشهد يثير الشفقة، ويمكن الاستدلال عليه من الحملة الدعائية التي سبقت المعركة الانتخابية الأخيرة، والتي تبارى خلالها السياسيون المخضرمون في توزيع الاتهامات، بعيدا عن روح التنافس المشروع في العمل السياسي. كل الأساليب كانت مباحة، على الطريقة المكيافيللية، على حساب أخلاقيات اللعبة والمفاهيم الديمقراطية السليمة، وقد بلغت في بعض الحالات حد التشهير ومحاولات الإلغاء، إلغاء الخصم كي يسهل الإمساك بالسلطة.
هؤلاء المكيافيلليون، نسوا أو تناسوا، أنهم كانوا لسنوات طويلة في مركب واحد، هو مركب النفي والإلغاء والإقصاء عن الوطن، وسط موجات متلاحقة من الاضطهاد والقتل والإيذاء الجسدي والمعنوي، وتجاذبات دولية حادة أسهمت في حماية الدكتاتورية الدموية التي جثمت لعقود على صدور العراقيين. ثم إنهم يتجاهلون اليوم أنهم في المركب نفسه عبروا إلى الضفة الأخرى، إلى السلطة، وأمسكوا بالقرار ومارسوا حضورهم الفاعل بكل سلبياته وإيجابياته خلال السنوات السبع الأخيرة. إنهم اليوم يتناتشون المناصب، في اللحظة التي يفترض أن يكرسوا جهودهم كلها للعبور بالعراق الجديد إلى دولة القانون والمؤسسات، وفي الوقت الذي يعلق العراقيون، الذين قصدوا بشجاعة وثقة صناديق الاقتراع بالملايين، آمالا كثيرة على الوجوه الجديدة التي انتخبوها وائتمنوها على قيادة الوطن.
تنابذ وتناحر وشللية وانتهازية وانحياز أعمى إلى المذهب والقومية والطائفية والمكاسب الصغيرة والكبيرة، ما يجري في عراق ما بعد الانتخابات، في الوقت الذي يفرض أن يمارس الفائزون والخاسرون معا، سياسة الإيثار والتسامح، ويغلبوا العقلانية على الانفعال في مقاربة الملفات المطروحة وكلها مصيرية، لأن مصلحة الشعب والوطن يفترض أن تعلو كل مصلحة أخرى، بدءا بمطامع الآخرين الإقليمية والدولية.
لكن، دعونا نستشف في المشهد العراقي المكفهر علامات مضيئة. هذه العلامات بدأت تتبلور في شكل مواقف لافتة تنطوي على ملامح مرحلة جديدة واعدة.
بعيدا عن أجواء التشنج والحقد وروح الانتقام، تطلع أصوات شجاعة وحكيمة في آن تدعو إلى تغليب مصلحة العراق على أي اعتبار آخر. أول هذه الأصوات صوت السيد عمار الحكيم رئيس المجلس الإسلامي العراقي، الذي يحرض على التسامح وفتح صفحة بيضاء في التواصل بين العراقيين، على حساب الصفحات السوداء التي غلبت على الحياة العراقية ودفع ثمنها العراقيون جميعا دما ودمعا وويلات وأوجاعا كبيرة.
إنه عمار الحكيم الذي يطلق الدعوة تلو الدعوة إلى التعالي فوق الجراح والتطلع إلى المستقبل بروح بناءة، ونشدان مرحلة جديدة من التعافي السياسي والأمني والاقتصادي في كل المجالات، من أجل تحقيق طموحات العراق والعراقيين. ولا نبالغ إذا قلنا إن مواقف الحكيم الأخيرة، والتي تشكل امتدادا لمواقفه السابقة، وتجسيدا لنهجه الفكري الواضح، وحنكته السياسية المسؤولة، تتجاوز بأشواط مواقف الكثيرين من سياسيينا المخضرمين، الذين لا يزالون يتشرنقون في سجونهم المغلقة فكرا وسلوكا وممارسة.
الحكيم يعطي هنا درسا بليغا للجميع، هو الذي فقدت عائلته 79 وجها من خيرة وجوهها، غيبها النظام السابق اغتيالا وتصفية وإعداما، ورغم ذلك كله دعا إلى عفو شامل عن جميع الذين أرغموا على الانخراط في صفوف حزب البعث المحظور، خوفا أو تداركا لانتقام. وهو بهذا الموقف السمح، رغم دقة وحراجة الظروف، يؤكد بثقة ونبل وتعال قدرته على الصفح من موقع القوة، وإيمانه بأن العراق لا يمكن أن يحكم من قبل طرف واحد أو طائفة بعينها، ولا بد من إشراك مكوناته كلها في صناعة غده وتقرير مصيره، بعيدا عن منطق الإلغاء والإقصاء. إنه درس بليغ في الانفتاح والتسامح والوعي القيادي، وتجاوز خنادق الدم إلى حياة ديمقراطية كريمة لا تلغي أحدا من أبناء العراق، وإنما تصهرهم جميعا في بوتقة الخير والحق.
ليس بعيدا عن موقف الحكيم موقف جعفر محمد باقر الصدر نجل المرجع الراحل الشهيد محمد باقر الصدر الذي أعدمه نظام صدام حسين في 9 ـ 4 ـ 1980، الذي يصر من جانبه أيضا على تجاوز الماضي، والتعالي فوق الجراح، والتطلع إلى المستقبل. إنه قيادي شاب وفي لنفسه ولتاريخه، وقد صارح قناة "السومرية" بأن الانتقام لمحمد باقر الصدر ـ وهو الأحق بهذا الانتقام قبل سواه ـ يكون ببناء العراق الجديد وليس في البحث عن دمه. وقد انتقد في الوقت نفسه قرارات "المساءلة والعدالة" التي قرأ فيها محاولة لتحميل شريحة عراقية كاملة مسؤولية الممارسات الدامية لصدام حسين.
جعفر محمد باقر الصدر أعطى بدوره درسا في التسامح والأخوة، وأدار ظهره للإغراءات الكثيرة التي لاحت في الأفق ورشحته في أعقاب الانتخابات لأن يكون رئيس الوزراء المقبل.
وفي طليعة الذين عملوا ويعملون على تغليب المستقبل على تركة الماضي البشعة مسعود بارزاني، الذي كان أول من مارس، فعلا لا قولا، سياسة التسامح من موقع القادر، عندما عفا في عام 1991 عن الأكراد الذين تعاونوا مع نظام صدام. وقد أكد هذا الموقف عندما شارك في مؤتمر المعارضة الذي انعقد في لندن في عام 2002، في مرحلة الإعداد لإسقاط النظام. والكل يعرف أن رئيس إقليم كردستان فقد 38 شخصا من أفراد عائلته، وأكثر من 8 آلاف من أبناء عشيرته، وعانى ما عاناه من ممارسات النظام السابق، بصفته أحد صانعي القرار المعارض في المرحلة الصدامية.
وإذا كنا نكتفي بهذه الأسماء الثلاثة، من دون أن نغفل المواقف الأخرى البناءة، فمن أجل التأكيد على أن ضحايا النظام السابق الحقيقيين هم الذين يدركون اليوم أهمية التسامح من أجل بناء الغد العراقي، بخلاف الكثيرين الذين يتاجرون بدماء العراقيين لزرع الفتنة والأحقاد، ورهانهم على الناس البسطاء الذين ينقادون وراء انفعالاتهم لأنهم عاجزون عن استشراف المستقبل بكل تعقيداته ومستلزماته واستحقاقاته.
بمثل هذه المواقف نعبر بالعراق من مرحلة التهافت على السلطة، إلى مرحلة الإعداد لقيام الدولة القادرة، المحصنة بوحدة أبنائها وطاقاتهم الخلاقة، وإيمانهم بقدرتهم على إيصال وطنهم إلى الموقع الذي يستحق، بحيوية وإيمان ومثابرة وعناد.
إنها ورشة البناء في مواجهة ورشة الأحقاد المتوارثة، وورشة الخروج من الماضي بكل مفرداته القاتلة إلى شاطئ الاستقرار والأمان.
والمسافة الفاصلة بين خندق الدم ومرفأ الأمان، هي المسافة الفاصلة بين الاستقتال من أجل السلطة، وعقيدة بناء الدولة، وهي عقيدة تحتاج إلى من يؤمن بها من الرجال الأقوياء. المفارقة كلها هنا، والرهان كله هنا، والبون شاسع بين رجال السلطة ورجال الدولة.
* كاتب وسياسي عراقي ورئيس تحرير مجلة "الأسبوعية"