استشراف مستقبل مجلس التعاون
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
علي محمد فخرو
هناك قول لأحدهم بأننا لا نستطيع التكهن بما سيأتي به المستقبل ولكننا نستطيع الإعداد لمواجهته . وعليه دأبت الكثير من الدول والمؤسسات على محاولة استشراف المستقبل لمجتمعاتها من أجل تهيئة بناء متطلبات المستقبل الذي تنشده لتلك المجتمعات . وفي جميع تلك المحاولات فالمهم ليس ممارسة التنبؤ وإنما البدء بصياغة مشروع معقول وواقعي للمستقبل .
وعادة ما يكون المدخل لعملية الاستشراف تلك طرح سيناريوهات لثلاثة مسارات قد يسير فيها المستقبل: أن يتحسن الوضع الحالي، أو أن يتدهور إلى الأسوأ، أو أن يبقى الحال على ما هو عليه . والمهم هو أن تطرح الأسئلة المناسبة في دراسة كل سيناريو لنصل إلى معرفة ما يجب أن نعرف وإلى إدراك ما علينا أن ننتظر، وذلك من أجل رسم ما علينا أن نفعل .
بعض دول مجلس التعاون الخليجي قامت بجزء من تلك العملية عندما وضعت لنفسها خططاً تهدف للوصول إلى أهداف محددة خلال عقدين أو ثلاثة، لكن تلك الخطط أخذت بعين الاعتبار فقط ما تريده لهذه الدولة أو تلك ونأت بنفسها، لأسباب سياسية معروفة، عن وضع السيناريوهات الثلاثة، واكتفت بالاعتقاد شبه اليقيني بأن أحوالها ستسير نحو الأحسن في كل المجالات . وبمعنى آخر فإن تلك الخطط ستبوء بالفشل أو تصبح غير واقعية في ما لو أن سيناريو مسيرة المستقبل اتجه في طريق غير الطريق الذي أرادته تلك الدول لنفسها .
لكن دول مجلس التعاون تتجه أكثر فأكثر نحو مزيد من التنسيق والترابط والتوحيد والتأثر بما يحدث عند دول مجلس التعاون الأخرى . وبالتالي فإن أحد محددات فشل أو نجاح الخطط الوطنية القطرية مرتبط بما يجري في جميع دول المجلس . فإذا كان الأمر كذلك فإن السؤال المنطقي الذي يطرح نفسه في الحال هو: متى ستقوم الأمانة العامة لدول مجلس التعاون بالدعوة لوضع مشروع استشرافي مستقبلي للمجلس ككتلة إقليمية واحدة؟ بالطبع فإننا هنا نتحدث عن مشروع يدرس السيناريوهات الثلاثة التي ذكرنا من أجل تنبيه القادة لما يمكن أن يأتي به المستقبل من آمال مشرقة أو من أوضاع صعبة متدهورة .
إن قادة هذه الدول وحكوماتها ومؤسساتها ومجتمعاتها المدنية يجب أن تعي، بوضوح وصدق ومن دون غمغمة العلاقات العامة التي تحرص الأنظمة الرسمية على ممارستها، بأن هناك ممارسات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية تقود إلى مستقبل أفضل وأحسن . بينما هناك ممارسات ستقود إلى العكس، إلى مستقبل مملوء بالأهوال والفواجع، كما أن هناك ممارسات ستبقي الوضع الحالي على ما هو عليه، وهو وضع ليس بالمقبول على الاطلاق من قبل شعوب هذه البلدان، إذ إنه مليء بالثغرات والنواقص .
نحن هنا لا نتحدث عن جماعة علماء واختصاصيين ومفكرين تختارهم الحكومات لوضع ذلك المشروع الاستشرافي المستقبلي . فالحكومات لن تختار إلا من يساير الأوضاع وينادي بقبول سيرها الحالي المتعثّر ليأخذنا إلى المستقبل . بينما المطلوب فكر وتحليل صادقين مع النفس ومع المسؤولية الوطنية والقومية، وتوصيات تأخذ بعين الاعتبار مصالح العباد من جهة وتوجهات العصر الذي نعيش من جهة أخرى .
وكنتيجة وكجزء من هذه الخطوة فإن الأمانة العامة مدعوة لأن تفكر بعمق وجدية في خلق مجلس أو لجنة دائمة من المفكرين . إن ذلك سيحول دون أن تنقلب دراسة استشراف المستقبل إلى عملية لمرة واحدة، وإنما تخضع لمراجعة دائمة ولتعديلات تتماشى مع مستجدات الحياة في مجتمعات مجلس التعاون وفي الوطن العربي والعالم أجمع . إن مثل هذا المجلس سيكون مختلفاً عن المجلس الاستشاري الذي عينته ووضعت له محددات حكومات دول المجلس . نحن نتكلم عن مجلس مفكرين يرفد الجميع بأفكار جديدة تراكمية ويجعل الحكومات والمجتمعات على دراية بما هو أساسي وجوهري لبناء مسيرة تنمية بشرية ومجتمعية تستمر في ما بعد حقبة البترول وتستفيد من توفر الإمكانات المالية الحالية لولوج ذلك الطريق .
وأخيراً، لا بد من التنبيه إلى أن خطوة دراسة الاستشراف المستقبلي لدول مجلس التعاون ستكون كارثية إذا لم تتناغم مع وتأخذ بعين الاعتبار الدراسات التي وضعت للوطن العربي ككل . إنها ستكون عندئذ خطوة وضع مستقبل لسمكة بلا بحر أو محيط أو نهر تعيش فيه .
لنتذكر بأن المستقبل في عصرنا الذي نعيش لم يعد كما كان في الماضي . إنه أعقد وأقل أماناً عما كان عليه الحال في ما مضى . ولذا فلن تنفعنا مقولة شائعة من أن عليّة القوم هم أبصر بما يجب أن يكون عليه مستقبلنا .