الدين والسياسة في إيران
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
إبراهيم غرايبة
يعرض كتاب "بردة النبي" من تأليف: روي متحدة، وترجمة: رضوان السيد، على نحو دراسة روائية للتعليم الديني الشيعي في إيران في مرحلة ما قبل الثورة الإسلامية عام 1979 من مدخلين اثنين، أحدهما باعتباره التعليم التقليدي المتبقي مما كان سائدا في العالم كله ونشأت عليه جامعات عريقة مثل كامبريدج وأكسفورد، وقدم للعالم علماء وفلاسفة مثل المسيحي توما الاكويني، والمسلم ابن رشد، واليهودي موسى بن ميمون، والمدخل الثاني -وهو الأكثر شيوعا- تأثير هذا التعليم على الثورة الإيرانية وعلى إيران بعد الثورة.
وفي عرضه لسيرة علي هاشمي، وهو اسم مستعار لشخص حقيقي نتعرف على النصوص التي تقرأ في الحوزات والمدارس الدينية في قُم، وربما لا تكون سيرة هاشمي نمطية تعبِّر عن رجال الدين التقليديين في إيران، ولكن الكتاب يعكس ما قاله الإيرانيون أنفسهم للمؤلف.
ويبقى الكتاب برأي مؤلفه حكاية كل واحد منا في هذه المرحلة من التاريخ التي بدأ الدين يؤدي فيها دورا كبيرا في الحياة والسياسة والثقافة، بعد خيبة كبيرة من الحقبة القومية والاشتراكية والتغريب، لتتشكل نزعة مندفعة تبحث عن قيم الأصالة والتجذر، واستعادة وعي الذات.
كان صباح الحادي عشر من فبراير عام 1979 يشكل حدثا تاريخيا ومفصليا في إيران، ففي ذلك اليوم حدث ما يشبه ما حدث لعصا سليمان عندما أكلتها دابة الأرض فعرف الجن بموته، لقد كان نظام الشاه قد مات بالفعل قبل ذلك ولكنه يبدو كما لو أنه مستمر في الحكم حتى أكلت دابة الأرض عصا النظام وخر على الأرض، كان سقوط الشاه يبدو حدثا يصعب تصديقه، وبدأت حقبة من حكم الملالي ورجال الدين.
نشأ علي هاشمي في بيت أبيه عالم الدين في قُم، وسلك هو الوجهة نفسها ليكون رجل دين مثل أبيه، وكانت قم تبدو في مرحلة صعود العلمانية مكانا استثنائيا غريبا لم يعد ينتمي إلى الحاضر، يسميها بعضهم مدينة الموتى، وكان رجال الدين يقدمون خدمات للوعظ والجنائز والمناسبات تبدو للجيل الجديد الذي اكتسح الحياة السياسية والعامة وممن نشأ في المدارس والجامعات ذات النظام الغربي أمرا غريبا ولا يفيد في شيء.
البازار والجامع هما المركزان الأساسيان للحياة العامة في إيران، ومنهما انطلقت وتشكلت ونظمت الثورة، وللبازارات والمساجد طابع عام فيه حميمية من الداخل مثل البيوت، ولكن البازار مؤسسة عامة لها تقاليدها الراسخة، ففيه تتحدد الأسعار، وكذلك سمعة الرجال تحدد وتقيم وتعدل تبعاً للمعلومات التي تتدفق عبر شبكة البازار والأصدقاء والثقات، وفي السوق أيضا تجري على نحو ما إدارة وتسيير الحياة السياسية، وعندما تتأزم الحياة السياسية كان البازار هو مقياس التعبير عن الأزمة وحدتها وتفاعلاتها، وفي عام 1905 أقدم حاكم طهران على معاقبة بعض التجار؛ لأنهم لم يخفضوا أسعار السكر التي كانت تبدو لهم خسارة كبيرة، ويومها أغلق البازار، واعتصم رجال الدين في المزارات وكانت في عام 1906 أول ثورة إيرانية في العصر الحديث.
والمسجد يمثل الحيز الذي يلتقي فيه الناس كل يوم ويعبرون عن رأيهم ومناقشاتهم حول كثير من المسائل والقضايا، وفي كثير من الأحيان كانت خطب الجمعة تحرك الناس وتجمعهم وتحرضهم.
لقد أنتجت ثورة عام 1906 فيما أنتجته التعليم الحديث والبعثات العلمية إلى أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، فكان لدى الإيرانيين عشية الثورة عام 1979 أجيال وطبقات من المثقفين والمهنيين.
كان ظهور المدارس كمؤسسات نظامية لها مبانيها وإداراتها ومعلموها في القرن الحادي عشر الميلادي إنجازا متقدما في الحضارة العربية الإسلامية، كانت هذه المدارس تقدم دروسا نظامية ومنهجية في اللغة والنحو والمنطق والفقه والفلسفة والعلوم الإسلامية، وفي المذهب الشيعي تشكلت مجموعة من المدارس والحوزات التي تبلور فيها المذهب الشيعي فقهاً وسياسة، ربما كانت أولاها حوزة النجف التي تشكلت مع رحيل العالم الشيعي الطوسي إليها من بغداد بعد استيلاء السلجوقيين السنة عليها وإنهاء الحكم البويهي الشيعي في بغداد.
كانت حوزة النجف بقيادة الطوسي مرحلة مؤسسية مهمة في المذهب الشيعي أوضحت الفوارق الفقهية والكلامية عن المذاهب السنية، ولكن التعليم الشيعي ظل هشاً بسبب غياب الغطاء السياسي، وعندما جاء الصفويون إلى الحكم في إيران في القرن السادس عشر الميلادي كان المذهب الشيعي في إيران ضعيفا، ولكن الأسرة الصفوية بدأت بفرضه بالقوة في إيران، وقد أعطى المذهب الشيعي للإيرانيين هوية جديدة يتجمعون حولها في مواجهة الدولة التركية في الغرب والدولة المغولية بالهند، وازدهرت بسرعة الحوزات الشيعية في المدن الإيرانية: قم ومشهد وتبريز وشيراز.
ومع نهاية القرن التاسع عشر كانت المؤسسة الدينية الشيعية راسخة وقوية في المجتمع والدولة والبازار، وتصوغ حياة الناس ومواقفهم وأفكارهم، وشكلت العمود الفقري لثورة عام 1906 ثم ثورة عام 1979.