جريدة الجرائد

السلفية: حركة محافظة أم مجددة وما علاقتها بابن تيمية؟

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك



صلاح الجورشي


ما طبيعة العلاقة التي تربط بين ابن تيمية والتيارات السلفية التي شهدت صعودا لافتا، ليس فقط في المناطق التي احتضنتها منذ البداية، وإنما انتشرت أيضا حتى في الدول التي فشلت في الوصول إليها تاريخيا، مثل دول المغرب العربي؟ كان هذا السؤال الإشكالي هو محور المناظرة التي نظمها منتدى الجاحظ قبل أيام في تونس. أما المتناظران فكانا الباحث التونسي المعروف د.عبدالمجيد الشرفي، عميد سابق بكلية الآداب، وأستاذ كرسي الحضارة العربية والإسلامية ومقارنة الأديان، ويشرف على مجموعة من الأبحاث والدراسات تحت عنوان "الإسلام واحد ومتعدد"، ضمن المبحث الذي عرف بـ "الإسلاميات التطبيقية". أما محاوره فقد كان المثقف المغربي اليساري التجربة والخلفية الأيديولوجية د.عبدالصمد بلكبير، أستاذ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بمراكش. وهو من جيل السياسيين المغاربة الذين انغمسوا في العمل السياسي حتى النخاع مع شغف شديد بالفكر والإدمان على القراءة.
لا خلاف حول أن السلفية ليست ظاهرة جديدة. إذ باعتبارها نزعة دينية محافظة، اخترقت التاريخ الإسلامي، وإن كانت تضعف في مرحلة، لكي تعود بقوة في مرحلة أخرى, كما أن السلفية ليست نسخة واحدة ومعممة، وإنما السلفية سلفيات تختلف فيما بينها إلى درجة التناقض والصراع المفتوح، كما هي الحال بين ما يسمى بالسلفية العلمية وبين ما أطلق عليها "السلفية الجهادية المرتبطة بتنظيم القاعدة".
مشكلة السلفية من وجهة نظر الشرفي كونها تتمثل الماضي للإجابة عن قضايا الحاضر، وبالتالي تريد أن تُسقط حلولا ربما كانت ناجعة في محطة تاريخية سابقة على مشكلات أفرزها واقع مختلف جذريا. أما بلكبير، فهو يعتقد أن السلفية ظاهرة سياسية تناقش القضايا بمنطق السياسة، وأن هدفها الرئيسي هو سحب الشرعية الدينية من الأنظمة المستبدة. والشرفي إذ يؤيده في طابعها السياسي، غير أنه يعتبر من الخطأ قصرها على السياسة بحكم أنها تحمل رؤية دينية, ويعتبر أن السلفية مرتبطة بالمجتمعات التقليدية، ولهذا تعمل باستمرار على القطع مع الحداثة التي ترى فيها "بدعة وابتداعاً". وهو الأمر الذي اعترض عليه محاوره، حين طالب بلكبير بمراجعة مفهومي التقليد والتحديث، لأنه يعتقد أن العلاقة بالماضي كانت باستمرار -حتى من المنظور الماركسي- علاقة استعارة, وهو ما جعله يرى في الحركة السلفية "حركة تجديدية". وتجديد الدين عنده هو "تحرير الدين من الدولة وإرجاعه إلى المجتمع حتى يتمكن من مقاومة غلوّ الدولة". وبما أن بلكبير ماركسي متمسك بهذا الانتماء، فقد رأى في السلفية أيضاً قوةً محارِبةً لما سمّاها "الوسائط الإمبريالية". وهي الفكرة التي دفعها إلى الأمام ليستنتج منها أن الحرب على الإرهاب إنما هي "حرب ضد الرأسمال الإسلامي".
لم يستسغ الشرفي هذا التحليل، مؤكداً أن السلفيين يحاربون الدولة المستبدة ليقيموا دولة أكثر استبدادا. وهو إذ يقر بالدور الإيجابي الذي لعبه ابن تيمية في مقاومة الاحتلال المغولي وغيره، فإنه يرى أن الوسائل التي تم الاستناد عليها في تلك المواجهة لم تعد صالحة، وهو الخطأ القاتل الذي يرتكبه سلفيو اليوم. واتهم ابن تيمية بـ "الفقر المعرفي"، وهو ما أنكره عليه محاوره، مبرزا أهمية المقاومة، ومتسائلا "هل بالعقل وحده يمكن أن تهيئ شخصا مستعدا للاستشهاد"؟ لكن الشرفي أكد أن العقل القديم لا يحترم الإرادات الحرة، ولا هو قادر على إنتاج ما سماها بـ "الدولة الديمقراطية الاجتماعية". ورغم اختلافه مع طريقة تفكير ابن تيمية، فإنه يعتقد أن هذا الأخير "كان منسجما مع عصره، لكنه بالتأكيد لم يكن مجددا, حيث يعطي الأولوية للنقل على العقل. وإننا نظلمه إذا حكمنا عليه بمقاييس عصرنا". وتلقف بلكبير هذا الحكم الذي أصدره مناظره ليعلن أن ابن تيمية "ضيعه المثقفون"، وساعدوا على تسليم فكره للجهلة. ورأى أن هذه "الشخصية الكارزمائية" كانت تعتقد أن الأمة "معصومة ولا تخطئ"، وهو ما أثار رد فعل الشرفي الذي عقّب بالقول "إذا كانت الشعوب لا تخطئ فلماذا نعمل على تعليمها؟". مؤكداً على أن السلفية مهمتها "تجييش العامة". فذكره بلكبير بأن الفيتناميين انتصروا على أميركا في الحرب بالاستناد على مفاهيم خرافية، وأن الدين ليس ظاهرة تاريخية وإنما وجدانية، مشيراً إلى أن لوثر لم يكن تقدميا وإنما كان رجعيا في موقفه في عديد من القضايا، لكنه مع ذلك أنجز مهمة إصلاحية هامة في الفكر المسيحي.
تلك كانت بعض المواقف التي برزت في هذه المناظرة، والتي قمت شخصيا بتنشيطها أمام حضور كثيف غص به مقر منتدى الجاحظ. وبغض النظر عن موقفي من آراء الرجلين، فالمؤكد أن النخب العربية مدعوة إلى تعميق الحوار فيما بينها، بعيدا عن الإقصاء المتبادل، والزعيق الذي لا ينتج فكرا، ولا يتقدم بنا أي خطوة إلى الأمام بقدر ما يزيدنا فرقة وتوترا. المؤكد أيضا أنه آن الأوان لكي نفتح ملف السلفية ونطرحه على طاولة النقاش العلمي والسياسي، لنعرف ما لها وما عليها، بعد أن أصبحت جزءا من واقعنا الثقافي والاجتماعي، وتحولت إلى معضلة حقيقية في معظم دول المنطقة, لأن ترك هذا اللغم بيد أجهزة الأمن لن يؤدي إلا إلى مزيد من إشعال الحرائق.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف