هل خرج العراق من مأزق السياقات الطائفية؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
فاروق حجي مصطفى
ما ميّز الانتخابات النيابية العراقية هذه المرة هو أنها حاولت أن تعطي صورة نموذجية ليس في المضمون إنما في الشكل. على الأقل هكذا أرادت النخبة السياسية العراقية أن تظهرها لمتابع المشهد السياسي العراقي، وحاولت هذه النخبة أن تُظهر أنها تجاوزت النمط الطائفي والفئوي الذي يردّ إلى بول بريمر الحاكم الأميركي السابق في العراق أنه مؤسسه لدرجة أنه صار شماعة تعلق النخبة السياسية في العراق أخطاءها عليه وهي لا تعترف أصلاً بأن أساس نشأة المكوّنات السياسية العراقية مبنيّ في الأصل على العصبوية والفئوية، فالأكراد لهم أحزابهم الخاصة بهم والشيعة كذلك، وإبان الحكم السابق كانت هذه الأطراف تلجأ، كلما دبّ خلاف فيما بينها، إلى الجهة المتقاطعة مع أطروحاتها، فالشيعة لجأوا إلى إيران ومارسوا حياتهم السياسية والدينية في إطار المؤسسات الإيرانية، والأكراد كانت وجهتهم الغرب أو سوريا، وحده كان الحزب الشيوعي العراقي العتيق على مسافة واحدة من كل الأطراف، ومع مرور الزمن أراد الكل أن يضمحل هذا الحزب وأن يمحى من الخارطة السياسية لعراق ما بعد صدام حسين، لكن ما زال هذا الحزب صامداً في وجه الفئوية، وبقي يناضل حتى الآن، وكمثال على انزياح هذا الحزب في زاوية محاصرة هو ما رأيناه في الانتخابات النيابية الأخيرة؛ إذ لم نرَ أي طرف كبير تحالف معه لكي يبقى على رأس القائمة.
وقد تكررت هذه الحالة من المحاصرة مع "حركة التغيير الكردستاني" التي تأسست منذ فترة ليست ببعيدة (ما قبل الانتخابات البرلمانية الكردية) إذ هوجمت هذه الحركة مع مرشحيها طيلة فترة الانتخابات وما قبلها والكلّ كان ينظر إليها بارتياب على أنها طرف يعمل خارج السرب وأن تصرفاتها ستكون سببا لتشرذم الحالة الكردية. ورغم ذلك استطاعت هذه الحركة تحقيق مكاسب لا بأس بها؛ إذ إن عدد المقاعد التي حصلت عليها مقبول مقارنة مع وجودها على الساحة.
إذاً، المسألة السياسية في العراق لا تنحصر بحجم ما يوضع من قوانين إنما أساس المسألة يكمن في أن التفاف الشارع العراقي ميال نحو الطائفية والفئوية، وهكذا يراد له، ولعل ما شاهدناه من نتائج للانتخابات يثبت كم للطائفية والعرقية والفئوية من تأثير وفعالية في سير اتجاه الناخب العراقي. فنوري المالكي رئيس الحكومة تقدم في الشارع الشيعي ومن بعده يأتي المجلس الأعلى الإسلامي وإبراهيم الجعفري، والتحالف الكردستاني تقدم في الشارع الكردي ولم يتقدم مثلا في أية مدينة ذات تنوع قومي ومذهبي، وإياد علاوي بحكم برنامجه وتحالفه مع السنة تقدم في الشارع السني وفي بعض المناطق الشيعية ولو أردنا أن نحسب هذه الأمور فقط في بغداد العاصمة وقارناها بخارطة العراق السياسي فنرى أن الشيعة تزاحم العلمانيين وغيرهم؛ لذا نرى أن المالكي قاتل لكي يكون في المرتبة الأولى في بغداد كون الشيعة أغلبية فيها.
وفي أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق نرى تقدم الحزب الديمقراطي الكردستاني على بقية الأحزاب في التحالف الكردستاني، لماذا؟ لأن جماعة الديمقراطي الكردستاني هم أكثر من أي طرف كردي يعزفون على وتر قومي، والحزب هو الوريث الشرعي لأغلب الثورات القومية الكردية، هذا فضلا عن أن الاستحواذ على منصب رئاسة إقليم كردستان صار أقرب إليهم من وجهة نظرهم؛ لذا نرى أن غالبية المكونات السياسية صارت متمسكة بلبننة العراق وصار موضوع المحاصصة الطائفيةأمراً اعتيادياً. وطرح السنة (غالبيتهم) وفور انتهاء الانتخابات على لسان نائب رئيس العراق طارق الهاشمي أن "العراق بلد عربي ينبغي أن يكون رئيسه عربيا" وردّ الأكراد: "عظمنا ليس هشاً ليكسره الآخرون". وصارت المناسبة ليكشف المستور وليبرهن على أن العراق ما زال يترنح تحت وطأة صياغات وسياقات الطائفية وأن التحالفات وتلون القوائم لا تعني بالضرورة أن زمن الطائفية قد ولَّى. والحق أن إصرار الكردي على منصب الرئاسة دفع بالمراقب أن يكتشف حجم الشوفينية في بواطن المكونات العراقية، وأن العصبوية والفئوية والطائفية ما زال ملاذاً لغالبية القوى السياسية الخائفة من المستقبل. بيد أن الهاجس الوحيد لدى القوى والأطراف السياسية في العراق هو أن تخسر مستقبلها؛ لذلك نراها تلوذ بالعصبيات (الطائفية أو العرقية أو الفئوية). لذا فإن ظاهرة الانزلاق نحو ابن الملّة (وسنصرّ على قولها) من مخلفات بريمر. والمفارقة أن بريمر رحل عن العراق منذ فترة طويلة لكن لا يريد العراقيون الخروج من مأزقه (بريمر). بدا أن العراقيين لا يريدون الخروج لو أرادوا لكانوا خرجوا فور خروج بريمر من العراق على الأقل كانوا توحدوا وأنتجوا نوعا من المصالحات وأعادوا العراقيين المنفيين (العراقيون الذين يعيشون في الخارج يصلح تعدادهم لبناء دولة بحد ذاتها)، إنما هم يصممون على عزف نفس اللحن الذي وضعه مايسترو العراق نفسه دون غيره. تحت هذه القبة يحاول كل طرف أن يعزز ثقله وقوته ولولاه ربما لم نرَ أيا من هؤلاء "المايستروات" على خشبة المسرح السياسي العراقي. إذا المعضلة مرتبطة بشكل وثيق بالذهنية العراقية.
ولا يبدو أن الأمل قريب في تجاوز الحرفية المتبعة تجاه مشروع الدولة الوطنية المنفتحة على جميع مكوناتها المجتمعية. فما زال العقل المهيمن عقلا عصبويا همه الرئيس استغلال مكوّنه ليعبر عليه جسرا ليصل بكل طرف سياسي أو شخص سياسي إلى مناله دون الأخذ في عين الاعتبار أن هذا يتم على حساب بناء الدولة الوطنية الحقة في بلاد الرافدين والذي لم ينم يوما على فراش من حرير، والسؤال: هل حقاً صار العراقيون على سكة الدولة الوطنية والتي تأخذ العلمانية روحا والانفتاح على الجميع سلوكاً، أم أن الطائفية هي العنوان الخفي لمجمل تفاصيل اللعبة السياسية في العراق؟