دير شبيغل : إمام السلام حسن شلغومي يزرع الشقاق بين مسلمي فرنسا
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
إسلام فرنسا النموذجي...
يدين علانية ارتداء البرقع والنقاب ويرحّب بحظرهما قانونياً
أولريخ فيتشنر
ماذا يحدث عندما يعتنق رجل دين مسلم قيم الغرب؟ في فرنسا، يستخدم الرئيس نيكولا ساركوزي تعاليم إمام واحد ليحقّق أهدافه. واليوم، يواجه حسن شلغومي، الذي دعم الأصوات المطالبة بحظر ارتداء البرقع، تهديدات من داخل مجتمعه.
يحظى شلغومي بشهرة واسعة في فرنسا، حيث يُعتبر أكثر إمام إثارةً للجدل، مع أنه ينادي بالسلام بدل الكراهية. تتمركز سيارات الشرطة أمام مسجده خلال صلاة الجمعة. ويرافقه دوماً حارسان شخصيان، خصوصاً في المناسبات العامة. وعندما يشعر أحياناً بأن التوتّر زاد على حدّه، يصطحب زوجته وأولاده الخمسة في رحلة تدوم أسبوعاً أو اثنين، على أمل بأن تخبو الضجة التي أثارها بسبب ما ينادي به من أفكار. لكن هذه الاستراتيجية لم تلقَ النجاح حتى اليوم، لأن الأوضاع ما تلبث أن تتأجج ثانيةً عند عودته. وقد شهدت حياة شلغومي في الأسابيع الأخيرة معمعة كبيرة.
تضم فرنسا خمسة ملايين مسلم، مع أن عددهم الفعلي ربما يصل إلى ثمانية ملايين، لكن لا يستطيع أحد تأكيد ذلك. يعيش بعضهم في هذا البلد منذ زمن، فيما هاجر آخرون إليه حديثاً. ويضم هذا المجتمع، حسبما يُعتقد، 1400 امرأة يرتدين النقاب أو البرقع الأسود أو الأزرق، على رغم أن عددهن الفعلي قد لا يتجاوز الأربعمئة. في مطلق الأحوال، يتجرأ شلغومي على أن يدين علانية ارتداء البرقع والنقاب ويرحب بفكرة حظرهما قانونياً، تصرُّف يُعتبر متهوراً.
لا يتحدّث شلغومي كثيراً عن نفسه، على رغم أن كثيرين يظنّون أنهم يعرفون عنه كل شيء. نعلم يقيناً أنه وُلد في تونس عام 1972 وهاجر عام 1996 إلى فرنسا، حيث أصبح مواطناً فرنسياً عام 2000 أو ربما بعد سنتين. يناقض شلغومي نفسه أحياناً، أو لا يتذكر التفاصيل بدقة، أو يقتبس عبارات لا تتلاءم مع الموضوع. لذلك يصعب فهمه. إلا أنه شخص محبب ولطيف يتمتع بلباقة ورشاقة راقص محترف.
رحلة إلى عالم مختلف
يعيش هذا الإمام في درانسي، ضاحية في شمال باريس تعد 66 ألف نسمة وتشكّل جزءاً من أفقر بلديات فرنسا. صحيح أن درانسي لا تبعد عن وسط باريس أكثر من نصف ساعة بالسيارة، إلا أنها عالم مختلف تماماً. إذ ينتهي جمال باريس عند جادة {بيريفيريك}، الحزام الذي يلف العاصمة الفرنسية. خلال رحلتك إلى تلك الضاحية، تمرّ بمنشآت صناعية، أراضٍ جرداء، مقابر، مصانع مهجورة، وسكك حديد يغطّيها العشب. وأول ما يلفتك في درانسي صفوف الناس الطويلة المنتظرة أمام مطابخ الطعام المجاني في منتصف النهار.
في هذه المنطقة بدأ شلغومي يكتسب شهرة إلى أن أصبح شخصية بارزة تعرفها الأمة بأكملها. سمعت به وسائل الإعلام والحكومة والرئيس قي قصر الإليزيه للمرة الأولى في شهر مايو (أيار) عام 2006، حين بدأ يتفوّه بأفكار مختلفة تماماً. لا، لم يدعُ شلغومي إلى التمرّد على الوضع السائد والجمهورية والقيم، بل كان يذكر أموراً تخالها مقتبسة مباشرة من الدستور الفرنسي، عبارات تتطابق مع النظام. كان شلغومي ينادي بالسلام.
في تلك الفترة، اعترف شلغومي بفظائع المحرقة النازية وحاول التقرّب من يهود فرنسا. كذلك، تحدّث عن المصالحة والتقارب، أفكار لم يسبق أن نادى بها إمام مسلم، فأُطلِق عليه سريعاً لقب {إمام السلام}. آنذاك، بدأ الاضطراب والاستياء يتناميان داخل مجتمعه، فثُقبت أطر سيارته وخرّب مجهولون شقّته. هكذا، كان إمام السلام يزرع الرفض ويحصد العنف داخل مجتمعه الخاص.
كان شلغومي قد أنهى تدريبه الديني عندما وصل عام 1996 إلى مطار شارل دو غول في منطقة رواسي القريبة. وكان آنذاك مهاجراً شأنه شأن مَن سبقه ومَن سيليه من المهاجرين. أقام بداية في بوبيني في مقاطعة سين سان دوني التي تضم نحو مئة مسجد. لذلك توافرت أمامه فرص عمل كثيرة، بما أنه درس القرآن طوال أربع سنوات في مدارس سورية وفلسطين وأدى فرائض الحج. ولغاية عام 2002، عمل نصف النهار إماماً في بوبيني والنصف الآخر عاملاً يتقاضى أجراً في أحد مخازن شركة FedEx في مطار شارل دو غول... هنا بدأ التناقض في حياته.
مواقف متطرّفة
صنّفته أجهزة الاستخبارات الفرنسية في تلك الفترة إسلامياً متشدداً يتبنى {مواقف متطرفة غريبة}. فقد قال المخبرون للسلطات إن شلغومي دعا المؤمنين إلى الجهاد وأعلن خلال خطب الجمعة أن كل مَن يموت في الجهاد يدخل الجنة لا محالة. وتأكيداً على ذلك، صودرت البطاقة التي أتاحت لشلغومي دخول مطار رواسي {لأسباب أمنية} في أغسطس (آب) عام 2003. قد تكون لهذه الخطوة دلالات كثيرة أو ربما كانت مجرد تدبير أمني لا معنى له.
حدث ذلك مع بداية حرب العراق بُعيد اعتداءات 11 سبتمبر (أيلول) 2001. في تلك المرحلة، اعتُبر مسلمون كثر مشتبهاً بهم. وخسر عدد كبير من العمال في مطارات باريس بطاقاتهم لمجرد أنهم مسلمون، أن لحاهم طويلة، أو أن جوازات سفرهم تحمل ختماً سورياً أو تأشيرة من الجزائر.
لا يُطيل شلغومي ذقنه، إنما يبقي على لحية صغيرة قصيرة ومشذّبة. وينفي التهم كافة المنسوبة إليه في الماضي، مؤكداً أنه حدث خلط بينه وبين أئمة آخرين نادوا بالبغض والكراهية في خطب الجمعة في بوبيني. ويصر على أنه لم يدعُ مطلقاً إلى الجهاد، وإذا فعل، فبالطريقة التي نادى بها النبي محمد بهذا المفهوم: أن على كل مسلم مؤمن أن يجاهد بنفسه. وماذا عن رواسي وبطاقته؟ يخبر شلغومي: {أُخذت مني لأنني سافرت إلى مكة مرات عدة. لكن صدّقوني: لم أواجه أي مشاكل مع الشرطة منذ وصولي إلى فرنسا}. مطلقاً؟ {مطلقاً}.
هديّة من عمدة درانسي
التقينا بشلغومي في مسجد درانسي خلال يوم عمل عادي كان الطقس فيه جميلاً. يقع هذا المسجد الذي بُني عام 2008 بجوار مركز تجاري ضخم يُدعى Avenir، كلمة فرنسية تعني {مستقبل}. عندما يسجد المصلون ووجوههم باتجاه القبلة، يصبح متجر Carrefour وراءهم، موقف المركز التجاري على أحد جانبيهم، وتلة كبيرة عليها سكة حديد أمامهم. أيام الجمعة، يصل عدد المصلّين، الذين يرتدون مختلف الأزياء التقليدية الشمال أفريقية، إلى 1500. فتضيق بهم قاعات المسجد. فيفرش المتطوّعون الأرض في الخارج بسجادات يستخدمها عدد كبير من المصلّين ليعبدوا الله في العراء.
داخل المسجد، يغطي سجاد أحمر كامل أرضية قاعة الصلاة الكبرى. ولولا رفوف الكتب في بعض الزوايا والمحراب بزخرفته العربية غير المتقنة، لخلت هذا المكان صالة رياضة أو ردهة مكتب إداري في إحدى مقاطعات ألمانيا.
حصل المسلمون على هذا المبنى كهدية من عمدة درانسي الجديد. ينتمي هذا العمدة إلى {الوسط الجديد}. وقد نجح في طرد الشيوعيين من دار البلدية بعد 40 سنة من إمساكهم بزمام السلطة. وتجاهل هذا الرجل العملي بصراحة مبدأ فرنسياً صارماً يقضي بفصل الدين عن الدولة عندما شيّد للمسلمين الكثر في هذه المدينة مسجداً بلغت كلفته 1.8 مليون يورو (2.39 مليون دولار). وأهداه أيضاً إلى إمام السلام، الذي قال إنه يود تسليط الضوء على {الإسلام القاتم}.
يلتقي شلغومي بزواره في مكتبه الصغير في الطابق العلوي من المسجد، غرفة تضم طاولة وقليلاً من الأثاث وتغطّي جدرانها سجادات صغيرة مزينة بسور مكتوبة بأحرف ذهبية. قدّم لنا موظّفوه شاياً محلّى. صافحنا شلغومي، رجل تمتاز عيناه بلمحة حزن ويرتدي قبعة بيضاء. ثم قال: {لا أملك متسعاً من الوقت. أتريدون التقاط صورة؟ علينا القيام بذلك حالاً}.
لم ينتظر شلغومي ردّنا، بل نهض مسرعاً من وراء مكتبه وسار باتجاه غرفة الصلاة. يدرك هذا الرجل ما يريده المصوّرون. فالصور بالغة الأهمية في نظره، خصوصاً صوره هو. فلا يمكن إخراج الصور من إطارها بسهولة، بخلاف الكلمات. ويدرك شلغومي مدى تأثير الصور. لذلك يبدو فيها دوماً رجلاً متواضعاً لا يشكّل أي تهديد، مسلماً صالحاً، الإمام الذي طالما انتظرته فرنسا.
إمام اليهود
تصدّر شلغومي عناوين الأخبار أخيراً، فاحتلت صوره الصفحات الأولى من Le Parisien وAujourd'hui en France، أكبر صحيفتين في فرنسا، وظهرت في Figaro. كذلك، شغلت صفحات كاملة من Le Monde وLibeacute;ration والمجلات. وحظي شلغومي أيضاً بإطلالات تلفزيونية كثيرة، إما في نشرات الأخبار المسائية أو كضيف في Grand Journal، برنامج حواري على محطةCanal Plus يستضيف عادة وزراء وأبطالاً أولمبيين وممثّلين من هوليوود. هكذا صوَّر شلغومي نفسه نجماً، نجم الجمهورية: مسلم صالح يمكن التباهي به أمام العالم، لا مسلم يتهم دوماً ويطالب ويتحدّى.
بلغت شهرة شلغومي الراهنة ذروتها في أواخر شهر يناير (كانون الثاني) الفائت، عندما ذكر في مقابلة مع إحدى الصحف أنه يدعم حظر البرقع. منذ ذلك الحين، فارق السلام المجتمع الصغير الذي يعيش فيه. فخلال أيام بعد المقابلة، قطع ما يُقارب الأربعين شخصاً بصوت عال إحدى خطبه في درانسي وهرعوا للإمساك بالمذياع ليتحدثوا عن {إمام اليهود}، كما دعوه، وعن {إمام يتحدث باسمنا ويخوننا}. كذلك طالبوا باستقالته.
التزام بفرنسا وقيمها
تسبّبت هذه الحادثة ببلبلة بعد أن كتب بعض المقربين من الإمام أو ربما مستشاروه الخاصون (يملك عدداً منهم) بياناً صحافياً ادّعوا فيه أن {مقاتلاً إسلامياً} اقتحم المسجد ودنّسه وهدّد الإمام. فجسّدت كلماتهم هذه، وإن على نطاق مصغر، سيناريو خشيته فرنسا لسنوات: تشكُّل خلايا إسلامية في مدنها، ظهور متعصّبين إسلاميين يملأون رأس الشباب المسلم في ضواحي المدينة برسائل الكره، نشوء شريحة كبرى من مهاجرين يرفضون الجمهورية الفرنسية، ومهاجمة العرب للعرب.
يحتشد أعداء شلغومي أمام المسجد كل يوم جمعة. ويحضِرون معهم مكبرات صوت ويجمعون التواقيع على عريضة تطالب بطرده. وبما أن السلطات الفرنسية منعتهم من إحداث شغب أو التظاهر في موقف متجر Carrefour، صاروا يقفون اليوم على العشب أمام المسجد مباشرة. وفي إحدى المناسبات، دعوا إلى تظاهرة أمام دار بلدية درانسي، حيث خطبوا في نحو 30 أو 40 متظاهراً، متحدّثين بغضب ضد العمدة وشلغومي والصهيونية.
يرتدي قائدهم، رجل دائم العبوس يُدعى عبد الحليم الصفراوي، معطفاً قصيراً رمادياً ويضع كوفية فلسطينية حول عنقه أيام البرد. وقد نعت شلغومي والعمدة بالكذب، وقال إن {الإسلام يُهاجَم في بلد العلمانية}. حتى أنه اتهم الحكومة {بإنشائها مساجد سراً لتقويض الإسلام من الداخل}.
مناخ مشحون
التقينا الصفراوي في ساحة البلدية الباردة القاتمة، حيث يُخلّد تمثال من البرونز ذكرى الشاب شارل دو غول. وخلال حديثنا معه، أطلق مزيداً من الادعاءات. فبما أن فرنسا صديقة إسرائيل، على حدّ قوله، فهي بالتالي صديقة {الإرهابيين الذين يقتلون الأولاد}. كذلك يؤكد الصفراوي أن شلغومي غبي يُساهم في تحويل المسلمين إلى {فزاعات الجمهورية}، وأن تلك الجمهورية أصبحت {مهوّدة}. مهوّدة؟ {نعم سيدي، هذا إذا أردنا تلطيف الحقائق}. فهزّ الرجال المحيطون بنا، الذين كانوا يرتدون عباءات طويلة ويرتجفون من شدة البرد، رؤوسهم موافقين على ما قاله.
لكن حفلات الأعراس المتوجّهة إلى دار البلدية ما انفكت تقاطع كل نصف ساعة هذه التظاهرة، التي ضمت بين خطبائها نساء محجبات وشهود عيان على اقتحام المسجد المزعوم. فرأينا عدداً من جزائريين ومغربيين وتونسيين يحتفلون فرحين، وقد علت موسيقى فرق الطبول التي رافقتهم، وهم يعبرون قرب التظاهرة الغاضبة. راحت النساء الشمال أفريقيات، اللواتي زيّنّ شفاههن باللون الأحمر وارتدين أفخر الملابس الغربية، بما فيها التنانير القصيرة، يرقصن في الساحة أمام دار البلدية، فيما توجهت مواكب الأعراس إلى مكتب التسجيل، متجاهلة المتظاهرين المرتجفين.
لا شك في أن غالبية المسلمين في فرنسا اليوم تعرف عن الإسلام والمسلمين بقدر ما يعرفه المسيحيون عن المسيحية والإنجيل، أو بكلمات أخرى، لا تعرف الكثير. لكن تتخبط فرنسا راهناً وسط تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية. وقصّرت حكومة الرئيس نيكولا ساركوزي عن الوفاء بوعودها. فكثر الحديث عن انتخابات جديدة وعن غياب القضايا التي تثير الرأي العام. وجاء الجدل بشأن البرقع وشهرة الإمام الشلغومي نتيجة لهذا الجو المشحون.
أطلق عضو شيوعي في البرلمان الجدل بشأن البرقع الصيف الماضي. وبما أنه حصل في الحال على دعم أعضاء من مختلف الأحزاب في الجمعية الوطنية الفرنسية، تشكلت لجنة وضعت سريعاً مسودة قانون جديد. فأثار داعمو هذا التشريع مسألة حقوق المرأة والجمهورية وكل ما هو مقدّس في فرنسا. لم يأبه السياسيون بأن الغالبية العظمى من الفرنسيين لم يسبق أن صادفت في الشارع امرأة ترتدي برقعاً وأن هذه الضجة كلّها لا تتناسب مع عدد ضئيل من حالات شوهدت فيها امرأة ترتدي البرقع في مكان عام.
وفجأة، اتضحت الصورة، إلا أنها بدت مقلقة. فقد أثارت الحكومة مناظرة حول {الهوية الوطنية} في الوقت الذي احتدم فيه الجدل حول البرقع وصوت السويسريين ضد بناء المآذن في نهاية شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الفائت. لذلك، شعر مسلمو أوروبا بأن أحداً يلعب لعبة قذرة ضد الإسلام وأن فرنسا قد ترحب بفرصة استخدام المسلمين ككبش محرقة.
دمية بيد ذوي النفوذ
خبا الجدل بشأن البرقع لفترة قصيرة، ثم أُجريت الانتخابات الفرنسية نحو منتصف شهر مارس (آذار) الفائت. لكن نتائجها كانت كارثية بالنسبة إلى الرئيس وتحالفه اليميني. لذلك، نرى ساركوزي اليوم يقود الشريحة المناهضة للبرقع، ويأمل بأن يستميل الناخبين مع تراجع شعبيته. لذلك يُطالب اليوم بأن يكون قانون حظر البرقع {صارماً قدر الإمكان}.
عوضاً عن الانتفاض في وجه هذه الدولة الفرنسية التي تهاجم دينه علانية، وعوضاً عن الاحتجاج ضد السياسيين الذين يناضلون للفوز بالانتخابات بشعارات معادية للإسلام، أعرب شلغومي، هذا الإمام النموذجي، وما زال عن التزامه بهذه الدولة الفرنسية وبالجمهورية. ومجدداً، لقي أصواتاً مرحبّة بموقفه هذا، لكن هذا الاستحسان، بالنسبة إلى إخوانه المسلمين، يأتي من الجهة الخطأ. فشلغومي ما عاد منذ وقت طويل يلقى قبول أتباعه في درانسي والأماكن الأخرى. في هذا الإطار، يقول: {أريد أن أكون إماماً جمهورياً}. تعكس كلماته هذه إلى حدّ ما عنوان الكتاب الذي يعتزم نشره، وحيث ينوي المحاججة لأجل {إسلام أوروبي} و{إسلام فرنسي}.
لعلّ لغته الفرنسية ضعيفة وتتعارض مع مظهره الأنيق، لكن مغزى جمله واضح كالشمس. يتحدث {ضد الإسلام القاتم}، وضد الكراهية، والعنف وحركة {الإخوان المسلمون} التي تسعى إلى زرع الفتنة بين الشباب في الضواحي الفقير، وضد المتطرفين والسلفيين. يوضح: {علينا إعادة تلميع الصورة الكارثية التي يعكسها ديننا}.
يشعر كثر بأن شلغومي يتمادى في تصرّفاته. ففي أيام الجمعة، أمام المسجد في درانسي، يتّهمه رجال حليقو الذقن ومعتدلون على ما يبدو يرتدون ثياباً غربية بأنه دمية بيد ذوي النفوذ. برأيهم، لا يجب أن يتورّط في السياسة وإنما عليه تفسير القرآن؛ عليه تسوية مشاكل المسلمين {بين المسلمين} وليس ضمن طيف أوسع؛ ولا يجب أن يخضع لليهود بقدر ما يقولون إنه يفعل.
يؤدي اليهود دوراً مهمّاً في حياة شلغومي. من الواضح بأن مسلمين كثراً في فرنسا لديهم مشاكل مع اليهود. فكثيرون ممن يعيشون في أماكن مثل درانسي وبوبيني يعارضون بشدّة إسرائيل التي تبعد آلاف الكيلومترات، ويعبّرون بشكل غامض عن تضامنهم مع الفلسطينيين. حين يضطرب الوضع في قطاع غزّة، يرتفع عدد السيارات التي تُضرم فيها النيران في أحياء باريس. يعقّب شلغومي: {ما زال اليهود في نظر كثيرين من إخواني المسلمين، أصحاب المليارات، والمرابين. وحان الوقت لوضع حد لذلك}. يبدو كلامه هذا منطقياً جداً في فرنسا وأماكن أخرى في أوروبا، إنما ليس ضمن مجتمعه.
ففي يناير (كانون الثاني) 2009، حين كان الهجوم الإسرائيلي مستمراً في قطاع غزّة وتسبّب بانتشار صور مزعجة على التلفزيون الفرنسي، اتّخذ شلغومي، مجدداً، موقفاً علنياً غير متوقّع. لم يدن إسرائيل، بل قال إنها وقطاع غزّة بعيدان، وإن الفرنسيين لا علاقة لهم بالصراع الفلسطيني الدائر. تساءل آنذاك: {أين سنصبح إن نقلنا صراعات العالم برمتّه إلى فرنسا؟}. كان موقفه هذا مشابهاً لموقف الرئيس الفرنسي، إنما مختلفاً جداً عن رأي المجتمع الإسلامي.
كذلك تضاءلت شعبيته أكثر فأكثر بين المسلمين حين ذكر منذ أربع سنوات في مايو (أيار) بأن المحرقة اليهودية {جريمة لا نظير لها}. كان آنذاك أول إمام في فرنسا يتجرأ على اتّخاذ مثل هذا الموقف المغاير. قال قوله هذا في أحد أماكن وقوع الجريمة، في درانسي بحد ذاتها، حيث لا يزال قائماً، وسط بحر من المباني الرمادية، مبنى سكني ضخم وقاتم اللون على شكل U استخدمه النازيون الألمان ومن ساعدهم من الفرنسيين كمعسكر اعتقال مركزي لليهود قبل نقلهم إلى أوشفيتز. فبعد سلسلة من غارات واسعة النطاق على المجتمعات اليهودية في باريس وغيرها من المناطق، نُقل أكثر من 60 ألف شخص، بمن فيهم ستة آلاف طفل، من درانسي إلى معسكر الموت.
اليوم، لا تزال إحدى حافلات سكة الحديد تقف شاهداً على ما حدث آنذاك، وأقيم أمامها نصب حجري. ومجدداً عادت المباني التي استُخدمت سابقاً كزنزانات مأهولة بالسكّان، ونستطيع رؤية طيور الحمام تتبختر على العشب الأخضر. في أثناء احتفال أُقيم هناك، عبّر شلغومي عن عميق حزنه لجرائم الهولوكوست. في الختام، أشار إلى أن اليهود والمسلمين، {بني إسرائيل وإسماعيل}، هم من العائلة نفسها وأولاد عم. وقد اتّضحت جرأة تعليقاته بعد أيام، حين تعرّضت شقّته للتخريب.
منذ ذلك الحين، صار شلغومي السبّاق إلى تحسين صورة الإسلام وتلميعها. لا شك في أنه عبر القيام بذلك، يمثل غالبية المسلمين الملتزمين في فرنسا، بقدر ما هو واضح أنه حرّض أيضاً أقلية خارجة عن المألوف. يقول: {ستكون معركة طويلة، لكننا لن نتوانى عن خوضها}. إنها معركة بلا نهاية، ويبدو أن شلغومي بدأ يتلمّس عواقبها مسبقاً.
أنا رمز
أقام شلغومي مؤتمراً جديداً للأئمة الصيف الماضي حضر افتتاحه وزراء حكومة، وممثلون عن المجتمع اليهودي، وديبلوماسيون من السفارة الأميركية وغيرها. تحدّث شلغومي في مؤتمرات عقدها البرلمان الأوروبي في بروكسل، ويشرب أنخاباً في موائد العشاء التي يقيمها اليهود. كذلك سافر إلى قطاع غزّة بصحبة حاخامات، ودُعي إلى الترويج لقضيته في قصر الإليزيه، وأمسكه الرئيس الفرنسي ولاحقاً رئيس الوزراء علناً بذراعه، وأثنيا عليه، وقالا له إنهما يفخران به وإنه يحظى بكامل دعمهما. وكأن على الجمهورية الفرنسية اختراع الإمام شلغومي إن لم يكن موجوداً. ذلك كله يسهّل على أعدائه نشر إشاعات مغرضة عنه ووصفه بأنه {عميل للنظام}، وشلغومي نفسه يمنحهم هذا الامتياز عبر خطاباته ومقابلاته، التي تتصف دوماً بشدّة المثالية والحماسة والإذعان. فيقول بكل فخر: {أنا رمز}. يروق له أن يرى نفسه بدور الريادي الوحيد. يضيف: {مسجد درانسي رمز، وأعداؤه يريدون تدميرنا}. إنها كلمات كبيرة، وكبيرة جداً على إمام يعيش في مدينة صغيرة، لأنها تحض على المقاومة عوضاً عن تهدئتها. وبهذه الطريقة، يزعزع شلغومي، إمام السلام، السلام. لعل ذلك ضروري وما تحتاجه الحرب الثقافيّة اليوم بالضبط. لكن المسجد في درانسي أصبح أيضاً مركزاً لتصرّفات سوقية ومشاحنات، لا بل مركزاً للشقاق.
يظهر أعداء شلغومي اليوم في المسجد كل يوم جمعة، وفي كل مرة، يزداد عددهم عن سابقتها. وبعضهم يأتي إلى درانسي من مناطق بعيدة، ومن ضمنهم خطباء بارعون يروّجون أحياناً لأفكار غريبة، مثل المطالبة بأن تتكيف فرنسا مع الإسلام، عوض أن يتكيّف معها ذلك لأنه الدين الحقيقي الوحيد. يُذكَر أن المتظاهرين اعتادوا أخيراً على رفع صور جثث أطفال غزّة. كذلك يزعمون بأنهم جمعوا أكثر من ألف توقيع يؤيد طرد شلغومي... ربما أيامه كإمام باتت معدودة.
إن حدث ذلك، ستفقد الجمهورية المسلم الصالح فيها، الإمام النموذجي وفق رأيها. فهل هو خائف؟ وهل يخشى على نفسه؟ على عائلته؟ يقول: {أخشى فحسب على المصلّين، وعلى هذا المسجد}. مجدداً، تبدو كلماته في غاية المثالية، لا بل حتّى غريبة بعض الشيء، لأن شلغومي يقولها بشكل عابر، بينما يعود مسرعاً إلى دخول عالمه الصغير المُحاط بمتجر Carrefour، موقف السيارات، وسد سكّة الحديد الذي يحجب الأفق عن مكّة.