جريدة الجرائد

ليبرالية عربية على الطريقة الصينية

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

غسان الإمام

منذ عشر سنوات، يعيش 350 مليون عربي حالة اقتصادية لا يعرفون اسمها! هي عند بعضهم "الانفتاح" لكن سوء سمعة انفتاح "السداح مداح" بعد حرب أكتوبر، أصبح اسم الحالة "الحرية الاقتصادية" أو "الليبرالية الاقتصادية" كما هو اسمها التقني المتداول بين خبراء المال والاقتصاد.

الليبرالية تعني الحرية الرأسمالية. إلى الآن، الليبرالية العربية لا تمارس "الكيماوي المزدوج". لا تمزج السياسة بالاقتصاد. كان الانتقال سلميا من الاشتراكية والماركسية إلى الليبرالية. انقلاب عربي بلا دماء. لكن مع الدموع. انتقال من "أَفرول" العمال إلى ياقة رجال الأعمال. من مثقفي ونضاليي الغضب الآيديولوجي إلى هدوء تكنوقراط وبيروقراط الاقتصاد والإدارة.

في هذه الليبرالية، احتفظت الدولة بهندامها الأساسي (الصناعات الثقيلة والنفطية). لكن باعت ملابسها الداخلية (شركاتها الأصغر غير الرابحة) إلى حلفائها رجال المال والأعمال. في الخليج، وحتى في سورية. بات القطاع الخاص يسيطر بنجاح باهر على نحو 65 بالمائة من الاقتصاد والإنتاج.

الوجه الإيجابي لليبرالية هو في تنمية الطبقة الوسطى. هناك زحف عربي بطيء من فقر البروليتاريا. إلى تنمية الطبقة الوسطى التي كادت تختفي تحت مطارق اشتراكية ناصر، وماركسية صلاح جديد وعبد الفتاح إسماعيل. وجه إيجابي آخر لليبرالية: شتم العولمة بصوت عال. وفتح الباب الواسع لاستثماراتها. هناك ثورات تشريعية. قوانين جديدة تشجع وتضمن الاستثمار العربي والأجنبي.

"فتح" و"حماس" لا بد أن تعرفا أن التنمية الاقتصادية هي أيضا مقاومة. اقتصاد مزدهر. مجتمع حيوي. عامل. متعلم. مرتاح ماليا واقتصاديا... هو أشد مقاومة ووعيا للنضال ضد الاحتلال والاستعمار. كان إبقاء الدول المضيفة للاجئين الفلسطينيين في فقر مدقع مخالفة صريحة لليبرالية المقاومة. كان الظن أن الفقر يربطهم بالوطن المغتصب. يشحذ فيهم غضب الرفض والمقاومة.

رجال المال والأعمال العرب سعداء جدا بالثقافة الليبرالية الجديدة. النظام أيضا سعيد بالتحالف مع هذه النخبة الاقتصادية. فهي أقل ضوضاء من مثقفي الآيديولوجيا. أشد ولاء وطاعة. في المقابل منحت الدولة هؤلاء الرجال حرية شبه مطلقة في العمل الاقتصادي والتجاري.

ويتعين على هؤلاء التكيف أكثر فأكثر مع ظروف العمل. لا سيما احترام قوانين العمل. حقوق العامل. حقوق وواجبات ملايين العمال العرب والأجانب.

ولا يكف مفتي السعودية الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ عن الدعوة لذلك. هناك اليوم جيل جديد من رجال المال والأعمال الخليجيين الذين درسوا الاقتصاد الحديث في الغرب، ويملكون وعيا تاما لشؤون الإدارة وإقامة علاقة ممتازة بين رب العمل والعامل.

الليبرالية تنطوي على المعنى "القتالي" للرأسمالية أي القبول بالمبادرة الفردية التنافسية. لا شك أن إيجابيات الليبرالية، في الحرص على التنمية المستدامة والنمو الاقتصادي، تنطوي أيضا على سلبياتها التقليدية، كاتساع الهوة بين الفقر والغني. والتضخم في أسعار السلع والعقارات. هناك مقاومة ومكافحة للفساد. لكن مكنسة النظافة تطول أو تقصر، من دولة إلى أخرى.

غير أن التجربة الليبرالية لم تخل دائما من الخطر. احترفت أصابع رجال مال وأعمال عندما مزجوا بين السياسة والاقتصاد. لم يكن رفيق الحريري يستحق المصير الذي لقيه. لعلي كنت أول من لفت اهتمام الصحافة والإعلام إلى تجربة سلام فياض الليبرالية في الضفة الغربية التي أنعشت نسبيا ثلاثة ملايين فلسطيني. تذوقوا طعم الأمن والانضباط. هم يمارسون النضال الشعبي ضد الاحتلال والحصار الإسرائيليين وهجمة المستوطنين لسرقة الأرض.

بل هناك اليوم هجمة "فتحاوية" على فياض لانتزاع الوزارات السيادية من حكومته. بما فيها وزارة المالية. إذا خسرها سيستقيل. إذا استقال انتهت التجربة. توقفت الدول الخليجية والغربية عن تمويل مشاريع تنمية الليبرالية الاقتصادية. اختل الأمن. عادت المقاومة الثالثة إلى فرض "الخوة" على رجل الأعمال ورجل الشارع، تماما كما هو الوضع البائس في "حماس غزة".

ديمقراطية الاحتلال فرضت على العراق ليبرالية الاقتصاد. أخطأت أميركا ليس في الغزو. إنما أيضا في تسليم أحزاب الشيعة الرديفة لإيران السلطة. تركت هذه الأحزاب الديمقراطية. لم تشكل طبقة إدارية كُفُؤة. اعتنقت اقتصاد السداح مداح. يحدوها جوع شره للمال العام. كان على أميركا بوش أن تقيم حكومة انتقالية ليبرالية تهتم بتقديم الخدمات السلعية والتموينية للناس. حكومة تمهد لديمقراطية حقيقية تحفظ كبرياء الوحدة الوطنية.

"اطلبوا العلم ولو في الصين". العرب لم يطلبوا العلم في الصين كما أوصاهم نبيهم. هم لا يعرفون أن ليبراليتهم الاقتصادية هي ليبرالية صينية. ليبرالية تختلف عن "اقتصاد الصدمة" الذي فرضه مفكرو أميركا الليبراليون، كجيفري ساكس على روسيا، بعد انهيار الشيوعية. مكنت التجربة "الطغمة اليهودية" من شراء القطاع الخاص بسعر التراب. شكرا لليبرالية بوتين الجادة التي جلبت الازدهار والاستقرار واسترجعت الكبرياء، مع قدر من الحرية السياسية.

الليبرالية الصينية، كالليبرالية العربية. هي أيضا تختبئ وراء مظلة "الآيديولوجيا الاشتراكية". بعد موت ماو تسي دونغ (1976)، سار دينغ هكسياو بينغ الخطوة الليبرالية الأولى. تحديث وتطوير تدريجي لكن بحسم. لبى تلامذته الليبراليون حاجة فقراء العالم إلى ديمقراطية السلع الرخيصة. صنَّعوا الطبقة العاملة. ما زال ماو يحظى بالاحترام. حتى المجتمع يقيم علاقة ود ورضا، مع الحزب الذي جعل دور الدولة تنمية الرفاهية. ثقافة العمل والإنتاج، بشفافية نزيهة. ومكافحة ناجعة للفساد، في مقابل الاحتفاظ بالسلطة.

مفكرو الليبرالية الصينية يحددون هدف التنمية الاقتصادية. دولة نظيفة (حتى لو لم تكن ديمقراطية). حكم القانون. الاستقرار. الأمن. مجتمع متعلم. تجنيب المواطن سوءات الليبرالية، كالمبالغة في الاقتراض المصرفي. والتبذير المسرف في الاستهلاك.

من الدوغمائية الحمائية المعرقلة للتجارة إلى العولمة! التجربة الصينية تجتاح العالم. العرب يشتمون العولمة. ويطبقونها. حولت الصين إفريقيا، إلى مختبر ليبرالي: استثمار. بناء. طرق. سكك. إسكان. مدارس. مشاف. كهرباء. ماء. كل ذلك بلا شروط سياسية. بلا غطرسة وشروط مصارف أميركا الدولية. وبلا أنانية أموال أوروبا.

لم يسمع العرب بمؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي الذي عقد في العام. وعدت الصين أفريقيا، عربها وسودها بإنفاق مائة مليار دولار على التنمية في القارة البائسة. خلال ثلاث سنوات في مقابل الحصول على المواد الخام والنفط. الليبيون والجزائريون لا يؤمنون بالصبر. ضرب الجزائريون العمال الصينيين. طالب القذافي الصين بنقل "التقنية" الصناعية إلى عمال إفريقيا. الواقع أن الليبرالية الصينية لها أيضا سوءاتها. صدّرت الصين مع ديمقراطية السلع الرخيصة، مئات الألوف من عمالها. يشاركون في التنمية. لكن يشكلون عبئا اجتماعيا باهظا، بسبب اختلاف الثقافة والتقاليد.

مفكرو الليبرالية الصينية لا يخفون أن الصين استوحت التجربة الليبرالية الأميركية: ثقافة السوق. المبادرة الفردية. طبقة رجال المال والأعمال. عولمة التجارة. لكن رفضوا استيراد الأزمة المالية. الاقتصاد الصيني حل محل الاقتصاد الياباني، كالاقتصاد العالمي الثاني، بعد اقتصاد أميركا الذي نخرته الليبرالية الفالتة، منذ ريغان إلى دهاقنة يهود المصارف الكبرى في وول ستريت.

إذا كان القرن التاسع عشر بريطانيًّا في ليبراليته الاستعمارية. والقرن العشرون أميركيًّا في ليبراليته المتوحشة. فالقرن الحادي والعشرون سيكون صينيًّا في ديمقراطيته السلعية، إذا لم يقنع الغرب الصين بصنع الكيماوي المزدوج، كما اقنع روسيا يلتسين بمزج الاقتصاد بالسياسة.


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف