جريدة الجرائد

المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية والمشهد اليهودي في العالم

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

رضوان السيد

تعود المفاوضات غير المباشرة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية في الأيام المقبلة. وتريد لجنة المتابعة العربية أن لا يمتد الأمر لأكثر من أربعة أشهر، فإن لم تكن هناك نتائج مُرضية فإن العرب سيعودون إلى مجلس الأمن، ويطالبون بتنفيذ القرارات الدولية ذات الصلة. وفي المفاوضات الحالية فإن للسلطة (والعرب) تكتيكا وللإسرائيليين تكتيكا آخر. والفلسطينيون يريدون تثبيت أمرين: خيار الدولتين، وحدود عام 1967. والإسرائيليون يريدون تجنب قضايا الوضع النهائي (المستوطنات والقدس والحدود واللاجئين)، والحديث في قضايا المياه والأمن والحدود المؤقتة إن أمكن. والفلسطينيون مستعدون للحديث في القضايا التي يريد الإسرائيليون الحديث فيها، لكنهم مصرّون على أن يكون سقفها المسألتين سالفتي الذكر، ولا يريدون الحديث في الحدود المؤقتة.

وهذه المرة فإن الإسرائيليين هم الضائعون، وليس الفلسطينيين. فقد احتالوا لأكثر من عام بقضية التهديد النووي الإيراني، أو تهديد حزب الله. وقصة صواريخ سكود الأخيرة هي محاولة إسرائيلية جديدة للإلهاء والتأجيل. لكن نتنياهو يعرف أن عنقه في يد المستوطنين الذين لا يفكرون فيما هو أبعد من أنوفهم. واليساريون القلة وبعض العقلاء في إسرائيل، وثلاثة أرباع يهود أوروبا والولايات المتحدة، يعلمون أن هذه التأجيلات لا معنى لها، وهي لغير صالح إسرائيل، بل ولغير صالح المستوطنين بالذات. فهناك ثلاثة ملايين ونصف المليون فلسطيني في الضفة وغزة والقدس. وتهجيرهم غير ممكن، ولا حل إلا باستيعابهم في دولة أو يصبح عددهم خلال عشرين عاما مثل عدد اليهود في فلسطين أو أكثر. ولذا، فإن من صالح إسرائيل وضروراتها "فصل" الفلسطينيين وكثافتهم الديموغرافية عنها بأسرع ما يمكن. أو يكون هناك خياران آخران، أولهما أن تنشب الفوضى في الأراضي الفلسطينية نتيجة تفاقم الاستيطان في الضفة والقدس، ونتيجة دفع إيران لحماس للعودة إلى إطلاق الصواريخ، وعندها تعود الحروب مسارعة إلى فلسطين والمنطقة، أو أن يجتمع الإسرائيليون والفلسطينيون في دولة واحدة يهودية - عربية، فتنتهي قصة الدولة اليهودية في الأمد المنظور من الزمان، بعد أن كلفت يهود العالم، وعرب الشرق الأوسط، والمجتمع الدولي، خسائر ما تكلفوها في الحرب العالمية الثانية!

إن هذا هو منطق البيان الذي أصدره أربعة آلاف من يهود أوروبا، بينهم الأستاذ والمثقف ورجل الأعمال والصحافي والناشط السياسي والمدني. وهؤلاء لا يشكون لحظة - للأسف - في الحق اليهودي في فلسطين، لكنهم يقولون إن الحق الفلسطيني في العيش بكرامة وفي دولة لا يمكن إنكاره أيضا. وليس من حق عدة آلافٍ من الإسرائيليين أن يأكلوا حقوق ملايين الفلسطينيين، وأن يهددوا بذلك حاضر الدولة اليهودية ومستقبلها! والواقع أن هذا كله هو ما دأب الرئيس أوباما ومسؤولو إدارته على قوله لنحو العام ونصف العام. وقد ضغطوا بعد منتصف العام الماضي على الفلسطينيين والعرب من أجل إجراءات قالوا إنها لبعث الثقة أو بنائها. ومن ضمن ذلك أن يقبل الفلسطينيون المفاوضات من دون شروط، اعتقادا منهم في إمكان أخْذ تنازلات من حكومة المستوطنين بهذه الطريقة. فلما تفاقم الاستيطان، وتفاقمت التهديدات بالحرب، أدرك الأميركيون والأوروبيون أن نتنياهو لا يريد غير التأجيل والمراوحة، ولا مانع لديه من إنشاب الحرب الصغيرة أو الكبيرة لتجنب المصير المحتوم، أي التفاوض والانسحاب من الأرض العربية. ولذلك اشتدت الضغوط على إسرائيل من كل مكان، بما في ذلك ضغوط رئيس الدولة الإسرائيلية شيمعون بيريس. فحتى الحرب، ما عاد يمكن استخدامها لمنع التفاوض أو إيقافه. وقد أدت المزايدات الإسرائيلية بشأن النووي الإيراني، إلى أن يطرح للمرة الأولى السلاح النووي الإسرائيلي على بساط البحث. وصار من ضمن بنود المفاوضات مع إيران وفي المنطقة إخلاء منطقة الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل بعد تحقيق السلام. لقد كان المشروع الصهيوني لإنشاء دولة يهودية في فلسطين، فكرة أقلية بين يهود أوروبا امتدت أفكارها أيضا إلى أوساط قلة في الولايات المتحدة. ولولا المحرقة التي أنزلتها النازية باليهود، لما اندفع مئات ألوف الخائفين إلى فلسطين منذ ثلاثينات القرن العشرين. أما بعد الحرب، فقد رأى الغربيون أن هناك "واجبا أخلاقيا" عليهم تجاه اليهود بإقامة وطن لهم، بعدما نزل بهم من مذابح. لكن بعد ستين عاما ونيف على قيام الدولة العبرية على أرض فلسطين، وعندما ينظر بعض عقلاء اليهود والأوروبيين والأميركيين إلى الوراء، يجدون أن التكلفة كانت هائلة عليهم وعلى العرب وعلى المنطقة وعلى اليهود أنفسهم. وقد أفادت إسرائيل من انهيار الاتحاد السوفياتي، إذ لجأ إليها أكثر من مليون من هناك، لكن ذلك كله كان نهاية المطاف. فقد سئم الأوروبيون والأميركيون دعاوى الواجب الأخلاقي، بعد أن مضت على ذلك ثلاثة أجيال. أما كبار اليهود في العالم، فإنهم يجدون أنفسهم كل الوقت شحاذين وجامعي صدقات لإسرائيل. ولو أن الملايين الأربعة هؤلاء رجعوا إلى أوروبا أو هاجروا إلى الولايات المتحدة وكندا وأستراليا، لكانوا أقوى وأنجح وأفعل منهم الآن. وقد انقضت أولا سدود الحرب الباردة، التي كانت تضع إسرائيل (وتركيا) بمثابة الحصن في وجه الشيوعية في الشرق الأوسط، ثم انقضت حماسيات الوطن القومي والدولة القومية. وهاهي النزعات الدينية المتصاعدة بإسرائيل توشك أن تحولها إلى دولة دينية، تستولد في مواجهتها عدة دول وأنظمة مثيلة طليعتها دولة ولاية الفقيه في إيران. وبعد أن كنا في الصراع الثنائي الوجه: الاستعماري الاستيطاني، والقومي، خرج علينا الوجه الديني للصراع، من دون أن تنتهي مآثر الوجهين الآخريْن.

وما دامت هذه الذرائع كلها قد انتهت، فقد انتهى أيضا التهديد العربي للدولة العبرية منذ زمن بعيد. إذ سلم العرب بالقرارات الدولية من جهتهم، بما في ذلك سورية التي لا يزال جزء من أرضها محتلا. والمراقبون الاستراتيجيون لا يأخذون التهديدات الإيرانية على محمل الجد، بل يعتبرونها ضغوطا على الولايات المتحدة في المسائل التي تتنازع عليها مع إيران منذ ثلاثة عقود. ولذا، فإن كبار اليهود بعيدي النظر، يخشون أن تكون إسرائيل ما فقدت ذرائع المواجهة والحرب والاستيطان، بل فقدت ما هو أكبر من ذلك، أي مبررات الوجود! فحتى الصين تحاول الآن أن تجد حلولا سلمية للنزاع مع تايوان وفي سينكيانغ والتبت. وروسيا تعجز عن ضبط الشعب الشيشاني الصغير، بينما لا يزال المستوطنون في إسرائيل طامعين في أخذ المزيد من الأرض في الضفة. كما أن كثرة إسرائيلية تصر على أن القدس كلها لهم لأسباب دينية! ولذا، فإنه ما نفد فقط صبر المجتمع الدولي، بل نفد أيضا صبر الكنيسة الكاثوليكية، وراحت تؤكد عبر البيانات والاجتماعات على حقها في القدس باعتبارها موطن السيد المسيح.

ما خطوط المفاوضات التي ستجري بعد أيام؟ العرب لا يتفاءلون حولها، لكنهم يريدون "إقامة الحجة" للمرة الأخيرة، ووضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته. والأميركيون يعبّر عسكريوهم عن التشاؤم من التعنت الإسرائيلي، لكنّ ميتشل وكلينتون وأوباما لا يريدون لاستراتيجياتهم التفاوضية، ولظروفهم في العراق وأفغانستان، أن تكون لها نهايات سلبية سريعة بعد هذا الجهد الجبار (من جانب ميتشل)، لنحو العام ونصف العام. أما اليمين الديني والعلماني في إسرائيل فهو ضد المفاوضات، ونتنياهو يعرف أنه إنْ تنازل قليلا في مسائل الاستيطان والقدس فإن حلفاءه هؤلاء سيتركون الحكومة فتسقط، أو يضطر لاستبدال تسيبي ليفني (زعيمة حزب كاديما) لهم، وهذا أبغض الأمور على قلبه ومصالحه. فلماذا إذن قبل الطرفان التفاوض غير المباشر؟ قبل ذلك الفلسطينيون والعرب لمساعدة أوباما في سياساته التفاوضية، ولكي يحملوا المجتمع الدولي المسؤولية في حالة الفشل. أما الإسرائيليون فقد قبلوا التفاوض تحت الضغوط الدولية، وحصلت بعض التنازلات لهم: تفاوض من دون شروط مسبقة، وعدم إيقاف الاستيطان في القدس! إنما الفرق أنه إذا فشل التفاوض، فلدى الفلسطينيين والعرب خيارات، بينما لا يملك نتنياهو خيارا غير الحرب، ولن تسمح له الولايات المتحدة بذلك، وإنْ فعلها فستزول حكومته بلمح البصر.

إن الذي يحصل الآن، يثبت قوة المسالمين، وليس قوة المحاربين، فبالحرب لن تستطيع إسرائيل الخروج من مأزقها. ولا يخرجها منه غير الانسحاب من الأرض العربية، وقيام الدولة الفلسطينية. فالخيارات صعبة، والحظوظ صعبة. ولا يزال الشعب الفلسطيني واقعا تحت العنف، وتحت الاحتلال، والذي تغير أن العالم كله الآن وعلى رأسه الولايات المتحدة، يريد السلام، ويريد الدولة الفلسطينية في حدود عام 1967. ويقول زعيم إحدى الجماعات اليهودية في الولايات المتحدة إن هناك فرصة تاريخية، لكن لا اليهود ولا الفلسطينيين يملكون زعامات تاريخية!



التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف