شكلنة التدين وتعليب الإسلام!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
تركي الدخيل
أسئلة كثيرة تدور حول أسباب هذا الانهيار في مستوى الوعي الديني، نلاحظ نقص مستوى الوعي الديني في تمدد الشكليات والحركات والأزياء على حساب المعنى الروحي والوجداني للدين، تمت شكلنة الدين بشكل واضح، في النصف الأخير من الثمانينات الميلادية والنصف الأول من عقد التسعينيات تم ضخّ خطاب متشدد شكلاني يركّز على تقريع الناس من ممارسة الأشياء العادية الحياتية اليومية، تم تحريم الألعاب وألوان الرياضة والفنون، تمّ التركيز على محاربة الصورة وربطها بالعقيدة، ذلك الخطاب المتشدد كان بذرةً أساسية لتنفير الناس من جماليات الحياة، أصبح الدين شكلاً، بات من يلتزم بشروط شكلية في لبسه يعتبر ''ملتزماً''، حتى وإن سرق أو اغتصب مال يتيم. تزامن ذلك الضخ المتشدد مع إنتاج غزير للكاسيتات، نسخت ملايين الكاسيتات، أصبحت تلك المرحلة ''زمن الكاسيتات''، ولا غرابة أن يشترك الإسلاميون السنة والشيعة معاً لاستخدام الكاسيت كوسيلة لنشر الأفكار، ابتداءً من استخدام الخميني، وانتهاءً باستخدام رموز الصحوة الإسلامية لتلك التقنية الحديثة، من أجل تمزيق فقه الحياة الذي ترسّخ بفعل براءة اجتماعية أصلية، نامت العيون على أصوات التقريع، أسواط من الصهيل والتصويت ضد الحياة بكل معانيها وأشكالها، تسبّبت في إغراق العقول بأصناف من الوسوسة الدينية، والتعلق بشكليات عادية، تم التركيز على تحريم الإسبال وحلق اللحية والغناء والتصوير. اطلعتُ قبل أيام على كتاب من تأليف: ثريا جعيبس، بعنوان: التلفزيونات الفضائية العربية، وهو كتاب حديث طبع سنة ,2009 تطرّقت فيه إلى ''حمّى الكاسيتات الأيديولوجية''؛ وتتحدث عن اشتراك الإسلاميين والماركسيين وأعضاء حزب الله وصدام حسين في توظيف الكاسيت لنشر الأفكار التي يريدونها؛ تقول: ''يقال إن العالم العربي هو في حال استنفار دائم، وإن السكان مجبرون على كمّ الأفواه بشكل فاضح، مسيّسون إلى أبعد حد، وبأن الآلاف من المثقفين المضطربين والمهتاجين، لم يجدوا منفذاً سوى هذه الوسيلة الوحيدة للحصول على معلومات جديرة بالتصديق، أو عند الجهة المعاكسة، تصبح الدعاية على الكاسيت المخدّر اليومي، لا غنى عنه بالنسبة للجماهير''. تمكّن الخطاب الإسلامي الفئوي الضيق من حصار المجتمع، أغلقت الكثير من مدن الألعاب، وضيّق على الرياضيين، حتى أننا قرأنا في سلسلة ''العائدون إلى الله'' قصصاً عجيبة عن ''التوبة''، بعضهم تاب من وظيفة ''حكَم''، وآخر تاب من وظيفة ''حارس مرمى''، وآخر تاب من لعب كرة القدم عامةً سواءٌ كان هجوماً أو دفاعاً، وزّعت الكاسيتات المليئة ببكاء أولئك التائبين، صياح وصراخ واحتفال بأن الله منّ على هؤلاء بالتوبة من تلك الألعاب البريئة، صارت التوبة وسيلة للمزايدة على الشكليات في الإسلام، حتى إن حارساً من حرّاس أشهر فرق السعودية كان يشوص فاه بالسواك أثناء حراسته لمرمى فريقه!. تلك الحمّى التي تمكّنت من المجتمع بدأت تنقشع قليلاً، لكن بعد فوات الأوان، تمّ تسميم الملايين بفيروسات كراهية الحياة، حتى كادت أن تصحّ فينا مقولة ابن خلدون وهو ينعى أمةً تهاوت فرقاً باهتة: ''كأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة''، وأظنّ أننا بحاجة إلى جهد مضاعف، وعلى مدى عقود لإزالة آثار جهود رموز الكاسيتات الأيديولوجية التي علّبت الإسلامي وشكلنته، وفرغته من مضمونه الروحي العميق... وإلى أن يأتي ذلك اليوم ستموت أجيال من الناس لم يعرفوا طعم الحياة، يموتون وهم تحت تأثير سياط التهويل والتقريع الذي نزع براءة أمم من الناس، وحوّلتهم إلى كيانات خائفة مرتعدة مرتعشة، تخاف من كل نسمة فرح، وتفرّ من كل بصيص نور.