جريدة الجرائد

التسامح: مثل الريح الخفيفة التي تسبق المطر!

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك


عبدالحسين شعبان


ينصرف الذهن في الكثير من الأحيان -ونحن نناقش مفهوم التسامح- إلى موضوع الدين، رغم أن التسامح الديني، لاسيما في أوروبا، في القرن السابع عشر وما بعده شكّل أساساً متيناً لفكرة التسامح بدءا من لوك ووصولاً إلى فولتير، لكن التسامح أوسع من ذلك بكثير، خصوصاً إذا ما ربطناه بالهوية، وهو أمر لا يمكن القفز فوقه أو تجاوزه.
وحسناً فعلت "الشبكة العربية للتسامح" في ملتقاها الفكري الثاني بمدينة الدار البيضاء بالمغرب، حين عقدته تحت عنوان "التسامح والهوية" لتضفي عليه هذه القيمة المعنوية-الاعتبارية من جهة، والضرورية-الواقعية من جهة ثانية، إذ لا يمكن بحث موضوع التسامح بعيداً عن الهوية وعن التنوّع والتعددية وحق الاختلاف، ولكن في إطار المشترك الإنساني.
وقد جاء ذلك على لسان المنسِّق العام للشبكة الدكتور اياد البرغوثي وهو يكرّم البروفسور المفكر المغربي محمد مفتاح، لمساهماته الإبداعية البحثية والأكاديمية لنشر ثقافة التسامح، لاسيما في تفعيل موضوع حوار واشتراك الهويات واتصالها وتداخلها في إطار إنساني، وهو ما كان مثار نقاش وجدل في إطار الاختلاف بين اتجاهات متنوّعة، كلٌّ منهما نظر للتسامح من زاويته، الأمر الذي طرح موضوع الموقف من اللامتسامحين، فهل يجوز -بحجة اللاتسامح- تجاوز مبادئ التسامح والتعامل بعنف مع اللامتسامحين خروجاً عليها، وهو الذي دفع المفكر كارل بوبر -ومنذ وقت مبكر- إلى التفكير بمآل التسامح في ظل أطروحات اللاتسامح السائدة.
وإذا كان من ضرورة لفك الاشتباك مع فكرة عدم التنازل عن الحقوق وتنزيه مبادئ التسامح عن الفكرة الدارجة عن الصلح مع العدو، لاسيما في الوضع العربي، وبخاصة استمرار احتلال الأراضي العربية والتنكر لحق تقرير المصير، فإن الموضوع كما طُرح بحاجة إلى وقفة مراجعة جدية ونقاشات معرفية معمّقة.
في كتابه "موسيقى الحوت الأزرق" يناقش أدونيس فكرة الهوية ويستهل حديثه بالعبارة القرآنية التي تضيء بقِدَمِها نفسه، حداثتنا نفسها على حد تعبيره، وأعني بها التعارف، "وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا" أي الحركة بين الانفصال والاتصال في آن، من خلال "رؤية الذات، خارج الأهواء" -خاصة الأيديولوجية، ويمكن أن نضيف الدينية والقومية وغيرها- بمعايشة الآخر داخل حركته العقلية ذاتها، في لغته وإبداعاته وحياته اليومية وهي التي تتجسد بالبعد الإنساني.
وبعد أن يستعرض أدونيس أركيولوجية الغياب المعرفي العربي على خارطة المعرفة الإنسانية، وهو ما أشارت إليه على نحو صارخ تقارير التنمية البشرية في العقد الأخير، لاسيما شحّ المعارف ونقص الحريات واستمرار الموقف السلبي من حقوق الإنسان وبخاصة حقوق المرأة والأقليات وغيرها، يطرح سؤالاً حول سبل الخروج من هذا الغياب، ويسأل أيضاً: ولِمَ هذا الغياب؟ لاسيما بتمثّل ذلك نقدياً ومعرفياً، من خلال معرفة الآخر، بمعرفة ذاتنا معرفة حقيقية، ولعل الخطوة الأولى التي ظل يركّز عليها في كتابه الممتع والعميق، هو كيف يمكن أن يصغي بعضنا إلى بعض؟، أي أن الحوار هو الخيط الذي ظلّ يشدّه باعتباره سبيلاً للخروج من الغياب وصولاً إلى معرفة الآخر. ولعل مثل هذه الرؤية تندرج في إطار الهوية من جهة والمشترك الإنساني من جهة أخرى، تلك التي يمكن أن تتجسد في مبادئ التسامح.
ولعل هذه الرؤية تستند إلى إحلال الفكر النقدي التساؤلي، محل الفكر التبشيري-الدعائي، حيث يصبح الوصول إلى الحقيقة التي هي على طول الخط تاريخية ونسبية، وصولاً يشارك فيها الجميع -رغم تبايناتهم إلى درجة التناقض أحياناً- وهذا يعمّق الخروج إلى فضاء الإنسان بوصفه أولاً إنساناً، ويدفع الذات إلى ابتكار أشكال جديدة لفهم الآخر أي بالحوار ثانياً، وثالثاً يكشف لنا أن الهوية ليست معطى جاهزاً ونهائياً، وإنما هي تحمل عناصر بعضها متحرّكة ومتحوّلة على الصعيد الفردي والعام، وهو ما يجب إكماله واستكماله دائماً في إطار منفتح بقبول التفاعل مع الآخر، ولعل الحوار هو السؤال الأكثر إلحاحاً بشأن هذا التأثر والتأثير والتلاقح والتعاشق، باعتباره قيمة أساسية من القيم السماوية، لاسيما للمتدينين التي دعت إلى الحوار والسلم والتواصي والتآزر والتراحم والتقوى والتسامح، بقدر كونها قيمة وضعية على المستوى الإنساني، لا غنى عنها سواءً بمعناها الاجتماعي أو السياسي أو القانوني أو الثقافي أو الأخلاقي.
هل الهوية جوهر قائم بذاته، لا يتغيّر أو يتحوّل؟ أم هي علاقة تجمعها مواصفات بحيث تكوّن معناها وشكلها؟ وبالتالي لا بدّ من تنميتها وتعزيزها وتفعيلها في إطار المشترك الإنساني، الأمر الذي يتخطّى بعض المفاهيم السائدة، ذات المسلّمات السرمدية السكونية لدرجة التقوقع، وينطلق إلى خارج الأنساق والاصطفافات الحتمية، من خلال قراءات مفتوحة تأخذ التطور بعين الاعتبار كعناصر تفعيل وتعزيز وتحوّل في الهويات الخاصة والعامة.
بهذا المعنى لا يكون اختلاف الهويات أمراً مفتعلاً حتى داخل الوطن الواحد، إذا كان ثمة تكوينات مختلفة دينية أو إثنية أو لغوية أو سلالية، ناهيكم عن اختلاف الهويات الخاصة للفرد عن غيره وعن الجماعة البشرية، ولعل هناك علاقة بين الشكل والمعنى التي تتكون منها الهويات الفرعية-الجزئية الخاصة وبين الهويات الجماعية العامة ذات المشتركات التي تتلاقى عندها الهويات الفرعية للجماعات والأفراد، حيث تكون الهوية العامة أشبه بإطار قابل للتنوّع والتعددية، جامعاً لخصوصيات في نسق عام موحد، ولكنه متعدد وليس آحاديا، فمن جهة يمثل هوية جامعة، ومن جهة أخرى يؤلف هويات متعددة ذات طبيعة خاصة بتكوينات متميزة إما دينياً أو لغوياً أو إثنياً أو غير ذلك، فالشكل ليس مسألة تقنية، حسب أدونيس، وإنما هو مسألة رؤية.
ولعل الحديث عن هويات فرعية، أو خصوصيات قومية أو دينية، لأقليات أو تكوينات، يستفز أحياناً بعض الاتجاهات المتعصبة دينياً أو قومياً، فهي لا ترى في مجتمعاتنا سوى هوية واحدة إسلامية أو إسلاموية حسب تفسيراتها وقومية أو قوموية حسب أصولها العرقية ونمط تفكيرها واصطفافات طبقية كادحيّة حسب أيديولوجياتها الماركسية أو الماركسيوية، أما الحديث عن حقوق وواجبات ومواطنة كاملة ومساواة تامة وحق الجميع في المشاركة وتولي المناصب العليا دون تمييز بما فيها حقوق المرأة وحقوق متساوية للأديان والقوميات، فهي تصبح في الواقع العملي ليس أكثر من مؤامرة ضد الأمة والدين، تقف خلفها جهات إمبريالية-استكبارية تضمر الشرور للمجتمعات العربية-الإسلامية، وبهذا المعنى لم تسلم حقوق بعض المبدعين في التميّز والاستقلالية والتفكير الحر، واعتبرت بمثابة انشقاق وخروج على الجماعة، أما في معارضة تفكيرها، فالأمر قد يستحق العقاب والتحريم والتجريم.
إن مثل هذه الممارسات المتعصبة أو غير المتسامحة، لاسيما بحق الجماعات القومية أو الدينية دفعتها إلى الانغلاق وضيق الأفق القومي، وبخاصة إذا كانت قد تعرّضت للاضطهاد الطويل الأمد وشعرت بالتهديد لهويتها، وهو الأمر الذي كان أحد نقاط ضعف الدولة القطرية العربية تاريخياً، خصوصاً في مرحلة ما بعد الاستقلال.
لنقارب المسألة من زاوية أخرى، بالقول إن الأفكار الشمولية التي غالباً ما تدّعي امتلاك الحقيقة والأفضليات لا تقبل الحوار ولا تعترف بالآخر ولا تقرّ بمبادئ التسامح، وهي تستبطن الاصطفافات الجاهزة حيث تذوب كيانية الفرد وخصوصيته في إطار الجماعة مثلما تصهر حقوق الجماعات القومية أو الدينية أو اللغوية الأخرى، في إطار الثقافة السائدة في المجتمع، عرقاً أو ديناً أو لغة، والحجة كما يتم التبرير في كل مرة، "الرأي الواحد الموحد المركزي"، الذي ينبغي أن يخضع له الجميع وفق تراتبية نمطية مفروضة عمودياً، فالحقيقة معها وما عداها ليست سوى بطلان وشرور وهو ما يعبّر عنه في إطار الدول الشمولية.
إن الإقرار بالتنوّع الثقافي والديني والإثني هو إقرار بواقع أليم، فقد كان ثمن التنكّر باهظاً، وأسهم في تفكيك الوحدة الوطنية، وهدّد الأمن الوطني، واستخدمته القوى الخارجية وسيلة للتدخل، وكان سبباً في هدر وتبديد الأموال وفي الحروب والنزاعات الأهلية وفي الفساد، بدلاً من توظيفه بالاتجاه الصحيح باعتباره مصدر غنى وتفاعل حضاري وتواصل إنساني، وقبل كل شيء باعتباره حقاً إنسانياً، ولعل ذلك من أهم ما دعت إليه "الشبكة العربية للتسامح"
منذ تأسيسها، حين وضعت نشر ثقافة التسامح هدفاً
أسمى لنفسها، وكأنها تستقرب ريحاً خفيفة بانتظار مطر واعد!

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
neor
nero -

خارج الموضوع

neor
nero -

خارج الموضوع