الثقافة المقاومة بامتياز
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
محمد مخلوف
هناك تعاطف في الغرب مع إسرائيل. هذا أمر لا يختلف عليه اثنان، ولا يحتاج إلى برهان أو نقاش. إنه اليوم من المسلمات.
وفي هذا الغرب تستطيع أن تقول كل شيء عن كل شيء، عن الحكم والنظام والكنيسة ورأس الكنيسة، وعن أدقّ الأسرار الخاصّة. هناك محظور واحد هو المساس بإسرائيل، مهما كان الخطاب عقلانيا.
والويل لمن تسوّل له نفسه التساؤل، ولو من باب النقاش التاريخي المحض، عن حقيقة ما جرى لليهود على يد النظام النازي الألماني أثناء الحرب العالمية الثانية. مجرّد التساؤل الموضوعي من أجل الفهم والتدقيق بعيدا عن التشكيك، فما فعله هتلر في حق اليهود كان جريمة ضد الإنسان والإنسانية، لا يجوز التردد في إدانتها، تماما مثل إدانة ما يفعله الإسرائيليون بالشعب الفلسطيني اليوم.
وفي الغرب، كل ما يقال عن إسرائيل يثير ضجّة، وكل من يوجّه النقد لها يتم تصنيفه في فئة "معادي الساميّة"، وتعمل مباشرة آلة دفعه نحو الهامش بشتى الوسائل، و"مقاطعته" إذا كان يعمل في حقل الفكر أو الإعلام أو أي حقل عام.
هذا في وقت غدت فيه معاداة الساميّة، المرادفة في السياق الراهن لمعاداة اليهود، آفة تنتمي إلى الماضي النازي. إنّهم، اليهود، "مدللون" وأصحاب نفوذ في الغرب اليوم. وإذا كانت هناك نزعة عداء لآخرين، فإنها بالتأكيد ليست ضد اليهود، بل بالأحرى ضد المهاجرين، وخاصّة المسلمين منهم، حيث يُطرح بأشكال مختلفة ومن جهات مختلفة، موضوع "تهديدهم" للهويّة الوطنية في البلدان التي يعيشون فيها.
لكن، رغم هذا كلّه، وفوق هذا كلّه، ترتفع بعض الأصوات الجريئة كي تقول ما تعتقده كلمة حق، ولو خالف التيار الجارف السائد. هذا ما فعله، ويفعله، منذ فترة طويلة المفكّر الأميركي اليهودي الأصل نعوم تشومسكي في العديد من كتبه ودراساته، والذي منعته إسرائيل يوم الأحد الماضي من الدخول إلى الضفّة الغربية لإلقاء محاضرة في جامعة بير زيت.
ومثال بارز آخر يبرز اليوم في فرنسا، هو المفكّر ريجيس دوبريه، الذي صدر له يوم 19 مايو/ أيار الجاري كتاب تحت عنوان "رسالة إلى صديق إسرائيلي". العنوان يذكّر بما كتبه البير كامو تحت عنوان رسالة إلى صديق ألمانيِ والصديق الإسرائيلي المقصود هو إيلي بارنافي، سفير إسرائيل السابق في باريس.
ما يفعله ريجيس دوبريه هو نوع من إعادة النظر في الإسرائيلية القديمة والجديدة. الأفكار المقدّمة كثيرة وكلّها تصبّ في محاولة الكشف عن حقيقة ما يجري في فلسطين. ولا يتردد في القول إن إسرائيل "دولة استعمارية"، وأنها "لم تتوقف عن الاستعمار وانتزاع الأراضي واقتلاع الجذور.
وهناك 18000 منزل فلسطيني جرى تهديمها، و750 ألف فلسطيني تمّ اعتقالهم في لحظة أو أخرى منذ عام 1967".
ويضيف دوبريه في موقع آخر: "عبر تبنّي قانون العودة ـ الإسرائيلي ـ يمكن ليهودي سقط من كوكب المرّيخ أو قدم من نيويورك أو من أوديسة، أن يعامل ابن البلد الأصلي كأجنبي. وعلى هذا أن يستجدي بعد فترة إذنا بالسماح له بالذهاب إلى حقله ورؤية أشجار زيتونه وهي تذبل وتجف".
ارتفعت الأصوات سريعا في وجه هذا المفكر الفرنسي المعروف، وأصرّت على أن تكون صاخبة كي يضيع صوته في الزحام. إنها الآلية نفسها التي تتكرر في كل مرّة تكون فيها إسرائيل في قفص الاتهام. المخرج السينمائي كلود لانزمان، صاحب فيلم "المحرقة"، أكّد أن دوبريه "لم يفهم شيئا عن إسرائيل".
والمؤرخ دافيد كلينبرغ وصف أطروحاته بسأفكار الصالونات". وكُثر شنّوا هجوما على دوبريه، لتشكيكه في "الشرعية التوراتية" كأساس مقبول لقيام إسرائيل. هذه مجرّد عينات، تعطي فكرة عن طبيعة الهجوم الذي يتعرّض له الكاتب الفرنسي لتعبيره عمّا يفكّر فيه.
إن قرار كتابة هذا العمل ليس وليد الصدفة، إذ كان دوبريه قد ذهب إلى فلسطين والمنطقة في مهمّة "رسمية"، لسبر مسألة التعايش بين الأديان. وفي عام 2008 قدّم مذكّرة عن مهمّته للسلطات المسؤولة، التي أجابت عليها بكل دبلوماسية: "كل التشخيص الذي تقدّمه عن النزاع الإسرائيلي ـ الفلسطيني صحيح، لكن ليس ممكنا الإفصاح علانية عمّا جاء فيه في فرنسا"!
كما يشير، ويضيف: "يوم واجهوني بهذه الإجابة، عاهدت نفسي على إنجاز كتاب آخر، ملتزم، كي أتصالح مع ذاتي ومع ما رأيته هناك".
تشومسكي ودوبريه وأمثالهما، لا يرفعون أصواتهم إرضاء لشخص أو لصاحب قرار، ولا استجداء لمنفعة، بل هم يدفعون كثيرا ثمن الإفصاح عن قناعاتهم. لكنهم يعطون، في الوقت نفسه، درسا عن الثقافة المقاومة "بامتياز"، وعن دور المثقّف.