جريدة الجرائد

المرأة "البرزة" وطقوس التراث الذكوري

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

حصة محمد آل الشيخ

اجتمعوا ذكورا بمحدودية فكرية تتجاوز الوجود والواقع لتعيش وهم الانفصال. وكأن المرأة ليست سوى مبيد أخلاقي ينقضّ على الرجل متى بدا نور كوة يشي بالتقاء

لأن البعض فرضوا أنفسهم مديرين للمقدس، لايستطيعون تصور الإنسان إلا ويدور في قائمة فقهية تفرض سجونها عليه، وبعيدا عن تفهم طبيعته كإنسان حر من حقه أن يختار ويتحمل مسؤولية اختياره، إلى توهم طبيعة ملائكية لاتخطئ، تسقط كل محاولاتهم القمعية للنفس البشرية، لأنها خارج حدود الممكن والمستطاع، وبدلا من مطالبة تنظيم الحياة بالقوانين التشريعية المدنية يكتفون بفرض عالمهم الخيالي، وبمزيد من سدود الذرائع التي صارت تذرع الواقع بكامله وتهيمن عليه، لأجل إقامة قداس فضيلة موهوم، يفشل ويكرر الفشل!
أن يتم استدعاء الماضي بكل رمزيته وتصوراته بل وألفاظه من أستديو راق ينتمي للقرن الواحد والعشرين مستلهما جوا خياليا ينقلك لرابعة الصحراء حيث البدائية وتفاصيل حياة البادية، والمرأة "البرزة" وبهذه الجدارة، فالشهادة لله أن برنامج واجه الصحافة - في هذه - حاز نجاحا غير مسبوق.
في تلك الحلقة أعيد الحديث عن ظاهرة أو معركة بل كارثة ومصيبة الاختلاط، يديرها رجال في رجال يجتمعون حول طاولة مستديرة يستمد التحليل من استدارتها الدوران في حلقة مفرغة، مفرغة من إنسانية الإنسان، فهي أقرب لمخاطبة قناعات استقرت في اللاشعور واكتسبت صفة الثبات على ميلها منها إلى مناقشة فكر وواقع، وبتغييب تام للمرأة كمعطى له دور الحضور واستنتاج النتائج وإن عديمة الجدوى، يقررون وينظمون في ظل غيابها وكأن الاختلاط الذي يخشون إرهابه اختلاط رجل برجل!
اجتمعوا ذكورا ليرفضوا إنسانية وطبيعة الطبيعة في كل مكان، وبمحدودية فكرية تتجاوز الوجود والواقع لتعيش وهم الانفصال، وكأن المرأة ليست سوى مبيد أخلاقي ينقض على الرجل متى بدا نور كوةٍ تشي بالتقاء، وفي ذروة توهماتهم الساحبة معها بيئة الألف عام مرتجعة يتداولون ألفاظا فقدت استخدامها بالتقادم كالمرأة "البرزة" بالمعنى الحديث "المرأة العاملة"، يناقشون واقعا مفصولين عن إدراكه، رغم مواجهتهم له ليل نهار في بيوتهم وفي الأسواق وأماكن العبادة، بل ويعيشونه بلا أي تردد في الصيف عند هروبهم من هجيره زرافات ووحدانا، وكأنهم يخلعون فضيلتهم مسافرين ويتلبسونها عائدين، ويعيشون تزييف الحقيقة مستمرين، ولا يأبهون!
تأتي المرأة البرزة كاستثناء كما ذكر المشاركون، فحديث المرأة التي تبرز للرجال لم يعترف به من باب شهادة الحق كتميز، بل كاستثناء، يُسقط على الماضي ويُسحب للحاضر، لتطمس الحقيقة التي يثبتها التاريخ للمرأة كمشاركة في كل ميادين الحياة قديما! وما زالوا يغلقون خط الأمام والتقدم، وبه ينكرون طزاجة العلاقة وطبيعتها في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام الذي أقر أخلاق العرب وطبيعة معيشتهم، وبُعث ليتمم نقصها ويتركها على الأصل.
ويتناول المشاركون مفهوم الاختلاط وسياقاته، فينكر الفقيه العبدالكريم اختلاط المرأة البرزة أو الشفاء التي ولاها عمر السوق كسياق اختلاط نساء برجال، ويعده صورة لا تصلح للتمثيل بالاختلاط الحالي، "فالاستلالات مضطربة والنقولات عابثة"، وأتساءل: ما السياق لصورة امرأة عينت على السوق لتراقبه سوى أن يكون اختلاطاً؟! وما التصور الآخر، ولماذا لم يطرحه؟
أما المحامي القاسم فاستأنف برمي التهم: "ربما الليبراليون تعمدوا خلط الأوراق عندما نستدل على اختلاط الرجل بالمرأة، على عموم استمتاع الرجل بالمرأة في بيئة عمل واحدة، بهذا القصد كتطرية جو العمل على سبيل المثال"، وحقيقة لا أعلم ما المقصود بالاستمتاع في بيئة عمل، إنه يخرج من تصور الحالة "الاختلاط" إلى الانتهاكات، لتكون الانتهاكات أصلاً، والاختلاط فرعا عنه!! إنه الهوس الفحولي المكتسح الذي يمعن في إبعاد المرأة عن الفضاء العام ويصر على اعتبارها مصدر فتنة وفوضى.
وبإيراد مساحة المسجد النبوي وحديث يؤكد قرب الرجل من المرأة من قبل مدير الحلقة الأستاذ داوود الشريان، ذكر د. الفنيسان أن الحواجز تدخل الآن في جانب الغلو، ثم يعود لخشية الفقهاء ليؤكد أن اقتراب الرجل من المرأة في حوادث السيرة قرب نسبي!! لا أدري أيريدون قياسه بالمسطرة ذات الملليمتر؟!
أما عضو مجلس الشورى د. الشريف فيتصور اختلاطاً مكوناً من أربعة أشخاص في غرفة ويتساءل "أليس بطول المعرفة وكثرة المحادثة تتطور العلاقة لتصل للمحرم، خاصة لو كانت المرأة جميلة"؟ والمرأة طبعا لا اعتبار لها وإن كان جميلاً، فهو المعذور وتفرض الفرضيات لإعفائه، وتقع المسؤولية بإغواء المرأة "الفتنة والشيطان" للذكر، والذكر لا يملك من أمره شيئا، وهو العاقل وهي الناقصة! أتمنى حل هذه المعادلة الصعبة!
واستمرت الصور الفقهية بخيال متشدد ومعقد "لو كان فيه طالب واثقين أنه لو ابتعث سيزني"، أستغرب كيف يدرك هذا اليقين؟!! "ولكن الحاجة ضرورية جدا لبعثه بحيث يقع فساد عظيم بعدم ابتعاثه، هنا نبتعثه، فالحالة تستجيز المحرم لغيرها"؟! حقيقة أحسست بصداع يفكك فهمي وأنا أستمع لهذه الجزئية، ودعوت لمن يدرس الفقه أن يثبت الله عقله من سحب التوهم على الواقع، والغريب أنه سئل عن ابتعاث المرأة والرجل، فهل التخيل "الوقوع في الفاحشة" يأخذ نفس الحكم على الاثنين الرجل والمرأة؟! أعتقد سيعيد حساباته في هذه النقطة لو فكر ملياً، فليس الذكر كالأنثى كما يفسرون، حتى في انتهاك الحدود.
وعندما اقترح الشريان تطبيق قانون التحرش في الغرب وإضافة شروط احترازية من قبل المرأة طبعا، كأن لا تضع المرأة زينة، رد د. الفنيسان: "الغرب وضع ضوابط للتحرش، ومع ذلك لم يستطع ضبطها"؟ وكأننا من استطاع أن يضبط الأمر ويفرض الفضيلة بالفصل!
إن تنظيم العمل في الغرب مقنن وصارم، والمكاتب ذات واجهات زجاجية، وباستدلال بسيط؛ لو كان الغرب منغمسين في الفساد لما تفوقوا في الحياة بلا منازع. إن سجون بعض من يتصدون للفقه ذكرتني بالحكمة العظيمة: السجين ليس الحبيس بل السجين من يدرك أن لاخيار له بين أن يكون حبيسا أو طليقا.
وأختم بمقولات بعض الفقهاء في الحجب:
ما جاء في أحكام النساء لابن الجوزي من نهي عن إدخال القرود الدور التي فيها النساء خوفا من فتنة النساء بالقرود! وما قاله الزبيدي في وصف المرأة بالحية "أنه أخذ على النساء ما أخذ على الحيات، أن يتحجرن في بيوتهن"، وعن امرأة من القدماء أنه إذا طرق عليها الباب، وضعت يدها على فمها، وتكلمت لتخرج كلاماً منزعجاً لا يفتن".
وأتساءل: هل تركت أفكار البعض للقيمة الإنسانية مدخلا كريما؟!

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف