جريدة الجرائد

القاسم المشترك ... عدم الثقة

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

جهاد الخازن


أن تكون عربياً هذه الأيام ليس انتماء بل وباء. القاسم المشترك الوحيد بين الحكومة والمواطن هو عدم ثقة أحدهما بالآخر. والرجل الذي تضطهده الحكومة يضطهد زوجته، والكل يعيش في بلد يعاني من بطالة مرتفعة وفيه مليون عامل أجنبي.

مع ذلك إذا سألت رجلاً: كيف الحال؟ قال: عال. ولكن إذا سألته كيف الأحوال؟ قال: لا تسأل.

سمعت عن رجل عربي مرض فأصرّ على أن يعالجه طبيب بيطري، وعندما سئل عن السبب قال إنه يستيقظ مثل السبع، ويذهب الى الشغل مثل الحصان، ويعمل مثل الحمار، ويهز ذنبه للمدير مثل الكلب، ويلعب مع أولاده مثل القرد، وهو أمام زوجته مثل الأرنب، لذلك يصرّ على أن يعالجه طبيب بيطري.

ما سبق لا يلغي أنني أشعر بحنين الى بلادي بعد عقود من الإقامة في انكلترا، فموجة ثلج وصقيع تركت حفراً في الشوارع والطرق ما ذكّرني بما تركت في لبنان، ايام لا ثراء لنقلق على مال أو فقر لنخاف على المستقبل.

في البيت كان العقاب أحياناً "صرماية" تُرمى على الولد، وفي المدرسة كان المعلم يستعمل عصاه بسبب أو من دون سبب. ولم نُصب بعقد نفسية من جراء الضرب، ولم يقم من بيننا من قتل عشرين أو ثلاثين لأن أمه ضربته صغيراً. بل إنني لا أذكر أنه كان في البلد أي عيادة نفسية وأنا صغير.

كنت أخرج الى الشارع وأنا أدرك أن نصف أهل الحي من أقاربي، وأنني أعرف النصف الآخر. وكان اللهو لعب الطاولة أمام الدكان، أو جلسة بوكر وراء ستار في آخر الدكان، أو فرجة على مباريات مصارعة، فهناك الأخوان سعادة وجورج ديراني وبرنس كومالي.

لا أذكر أن باب البيت أُغلق بمفتاح يوماً، وكنا نُزار بقدر ما نَزور، وهناك دائماً بعض الأقارب معنا أو نحن في بيوتهم، والزائر قد يقرع الباب ويدخل قبل أن يؤذن له، أو يدخل من دون قرع واستئذان، ولكن يقول "دستور" بصوت عالٍ، وهناك دائماً قهوة تركية، أما الشاي والنعناع والزهورات واليانسون فحسب الطلب.

عندما كنت أفعل ما يثير غضب أمي أو خالاتي كان اسمي "الولد" أو "الغضيب"، فإذا نلت الرضا أصبحت "أبو بسام" وأنا دون سن المراهقة، فالولد الأول يحمل اسم جده، وابنه الأول سيحمل اسم جده بدوره. (اليوم يعتبر أبو عمار أو أبو مازن اسماً حركياً ولا يكلف "الخواجات" أنفسهم عناء معرفة العادات العربية، لذلك يتخبطون، ويزيدون حجم كل مشكلة لهم معنا يريدون حلها).

في بريطانيا هناك فصل واحد هو الشتاء، مع يومي ربيع أو خريف ولا صيف. في بلادنا أربعة فصول تأتي في مواعيدها وشتاؤنا معتدل البرد، وصيفنا معتدل الحر.

والفاكهة في موسمها، فالبرتقال والأفندي وأنواع الحمضيات في الشتاء لتوفير فيتامين "سي" قبل أن نسمع باسمه، والبطيخ والشمام الأصفر في الصيف، وللتين والعنب موسم، وللتفاح والدرّاق موسم آخر، وكله طازج وطبيعي، ولا زراعة في بيوت من الزجاج والبلاستيك وإنتاج بطعم بلاستيكي.

كنا نسبق الزوار العرب الى الجبل في الصيف، بدءاً من حزيران (يونيو) فتمتلئ طرق الجبل بسيارات شحن تحمل الأثاث الذي يعود في أيلول (سبتمبر).

الكويتيون في بحمدون، السعوديون بين عاليه وصوفر، العراقيون في حمانا وفالوغا. مع قلة غير لبنانية، مثل بعض المصريين من أصل لبناني، في ضهور الشوير وغابة بولونيا. وكان الجميع من أهل البلد وزواره يجدون الوقت ليوم في دمشق أو لغداء أو عشاء في شتورة وزحلة. أما ابن البلد مثلنا فيذهب يوم الأحد الى نبع صنين فوق بسكنتا وقد يمر بالمزرعة...

مزرعة كفرذبيان قبل أن يشتهر مطعم ميشال وينتقل الى مكان أكبر أصبح من معالم المنطقة. كنا نقول للمعلم "بدنا جاط التبولة قد كميون البوزينغ".

كان الأكل ولا يزال من حمص ومتبل وتبولة، ثم "مشاوي" ودجاج مسحّب على الفحم، وفي الموسم عصافير مقلية بربّ الرمان.

كان للأهل في أيام المراهقة الأولى شقة أمام سباق الخيل، ولا يزال وقع حوافر الخيل في أذنيّ، بل أذكر جرائد السباق "هبّت" و "معليش" و "آخر ساعة". هل بقي منها شيء؟

"تقدمنا يا بوسمرة، وصرنا نسافر لبرّة"، بل نقيم في الخارج، وأحضر أوبرا عالمية ومسرحيات برودواي، ثم أحن الى مسرحية مدرسية أيام الثانوية. وحضرت يوماً افتتاح الموسم في دار "لا سكالا" في ميلانو، وفضلت عليه ذكرى فيروز تغني في العيد الكبير (الفصح) من كنيسة انطلياس قبل أن تشتهر.

ثم هناك الحفر في الشوارع. إذا لم أذهب الى شوارع بلدي فهي تأتي اليّ في لندن، والتي ضيعتها كانت معي.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف