رابطة الجوار العربي: ما عليها... وما عليها
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
خالد الحروب
طرح عمرو موسى أمين عام الجامعة العربية في اجتماع القمة الأخير أواخر شهر آذار (مارس) الماضي في ليبيا فكرة إنشاء "رابطة الجوار العربي" والتي تقوم على إنشاء تعاون إقليمي بين الدول العربية ودول الجوار، وخاصة تركيا وإيران والدول الأفريقية، وربما أيضاً دول جنوب أوروبا. بعد مرور أقل من شهرين على عقد تلك القمة ربما لا يتذكر أحد شيئاً مهما دار فيها أو صدر عنها، إلا فكرة "الجوار العربي" التي اشتهرت بسبب رفضها والتحفظ عنها أكثر من أي شيء آخر. أهم شيء تضمنته هذه الأطروحة ليس مضمونها بل شكلها، أي كونها فكرة جديدة ألقيت في بركة التسيس العربي الراكد والتقليدي والمُمل. فهي تأتي في مناخ سياسي وفكري تعوّد الرتابة، وتصحر الأفكار، والبطء في تطبيق أي منها في حال تبنيه، وانعدام الخيال والإبداع، والركون إلى رد الفعل وليس المبادأة به. في مناخ كهذا كان من المتوقع أن تُقابل تلك الفكرة بالتوتر والتحفظ والرفض، وأن لا تُناقش بتوسع. لذلك، وابتداء، من المشروع بل والضروري تسجيل هذا الجانب الإيجابي "التمردي" لهذه الفكرة، أي لجهة الخروج عن المسار التقليدي السلحفائي والمحافظ للتسيس العربي.
لكن أبعد من ذلك يتهاوى مضمونها أمام أي تحليل دقيق سواء من ناحية ظرفها المكاني والزمني، أو افتقاد شروط الحد الأدنى الموضوعية لنجاحها. زمانياً، تمتاز اللحظة العربية الراهنة بتشرذم وانقسام محاور ربما كان غير مسبوق، يكاد يدفع إلى مربعات اليأس من وجود إمكان قيام أي "تعاون عربي" مشترك، ناهيك عن ضم دول الجوار اليه. وظرفياً زمانياً أيضاً، تورط إيران نفسها في معركة مع العالم بأسره بسبب ملفها النووي، وتظهر سياسة خارجية هجومية واستعلائية إزاء الدول العربية، تهشم أية قواعد مشتركة للتعاون الإقليمي. أما أفريقيا، فإن تداعيات حروب السودان جنوباً وغرباً، ثم تطورات ملف حوض نهر النيل والتوترات التي رافقته، تحيل فكرة صوغ رابطة جوارعربي مع دول ناقمة على العرب إلى تمرين تهكمي. والتوجه نحو جنوب القارة الأوروبية كجزء من "رابطة الجوار العربي" يدفع الى السؤال البديهي: لماذا ستوافق تلك الدول على الانضمام لمثل هذه الرابطة التي تفتقد إلى محرك مركزي في حين أنها منضمة أصلاً إلى "سياسة الجوار الأوروبي" وهي الصيغة الإقليمية التعاونية التي أسسها الاتحاد الأوروبي للدول المجاورة له منذ سنوت.
نظرياً وعملياً يكمن الخلل الكبير في رابطة "الجوار العربي" في أن "الجوار" موجود، لكن "العربي" غائب عن الصيغة المطروحة، استراتيجياً وتأثيرياً. ما هو موجود مكان "العربي" هو الفراغ، ما يعني أن الفكرة برمتها ستعني فيضان "الجوار" على ذلك الفراغ. ومن ناحية منطقية صرفة لنا أن نفترض أن أي توسع إقليمي يهدف الى ضم دول إضافية إلى مجموعة تأسيسية معينة سيستند إلى صلابة دول النواة - أي في حالتنا هذه صلابة المنظومة الإقليمية العربية وعنوانها الجامعة العربية. وأن هذه النواة تشكل، بقوتها ومتانتها، مصدر جذب وإغراء إلى ما جاورها من أطراف. من دون وجود النواة الصلبة المؤسسة للشكل الإقليمي الموسع (الجوار العربي هنا) فإن ذلك الشكل المُقترح ليس له معنى عملي أو فرصة للتطبيق الحقيقي. لا يشكل الإقليم العربي منظومة سياسية تعاونية معقولة، ناهيك بأن تكون محكمة أو جذابة. وليس لدى المجموعة المُشكلة لهذا الإقليم ما تعطيه للآخرين من منطلق جماعي إقليمي. في "سياسة الجوار الأوروبي" التي ربما كانت في الخلفية العامة للصورة، ضم الاتحاد الأوروبي، كنواة صلبة وأساسية للتحرك السياسي الإقليمي، الدول الواقعة جنوب وشرق حدوده. ومن بنود تلك السياسة تقديم مساعدات مالية وغير مالية في أكثر من مجال بهدف توسيع نطاق التناغم السياسي والقيمي حول الاتحاد الأوروبي، واعتبار ذلك الخطوة الأولى للدول الراغبة في الانضمام الى الاتحاد (وخاصة الشرق أوروبية). دول الجوار الأوروبي ضعيفة وفقيرة مقارنة بدول الاتحاد الأوروبي نفسه، والاقتراب جوارياً وسياسياً من الاتحاد الأوروبي يفتح أمامها بعض المجالات لتطوير قدراتها الذاتية. وهكذا فإن طبيعة العلاقة الإقليمية واضحة، والاستفادات المتبادلة شبة واضحة أيضاً. وعلى رغم ذلك الوضوح، وعلى رغم صلابة النواة الجاذبة للجوار، فإن "سياسة الجوار الأوروبي" تواجه عقبات كبيرة وانتقادات متزايدة، أهمها فقدان المعايير الموحدة في التعامل مع دول مختلفة في كل المجالات، وغياب الحد الأدنى المشترك بين الدول الجوارية (مثلاً، ما الذي يجمع بين ليبيا ومولدافيا، أو بين تونس وبيلاروس؟)، فضلاً عن الخلافات السياسية والتحالفية العديدة خاصة مع موسكو أو تلك العابرة للأطلسي مع واشنطن وتأثيراتها التشتيتية في أوروبا.
مشروع "رابطة الجوار العربي" يغامر بطرح فكرة طموحة وغير ناضجة تنافس "سياسة الجوار الأوروبي"، إذ هي تريد جمع تشاد مع اسبانيا، وإيران مع إيطاليا، وذلك كله مع غياب كلي للمركز من ناحية جغرافية، وللهدف من ناحية استراتيجية. لا يحتمل الجسد العربي المهلل توسعاً أقل بكثير من التوسع المطروح، فضلاً عن أنه لا يمتلك أي جاذبية سياسية وإقليمية لإغراء تلك الدول للانضمام إليه. وعلينا أن نتذكر هنا أن دولة مثل إريتريا، بضعفها وفقرها، لم تجد في الانضمام إلى الجامعة العربية أي إغراء أو هدف يُستحق أن يُبذل من أجله الجهد. وأن دولة مثل ليبيا تتفلت يوماً إثر يوم من الجامعة العربية وترى في مشروعات الاتحاد الأفريقي، التي تنافس هشاشتها وعدم عمليتها مشروعات التضامن العربي، إغراء أكثر من الجامعة العربية نفسها.
عندما يريد العرب كمجموعة "احتواء" جوارهم الإقليمي فعلى أي أساس استراتيجي وسياسي يمكن أن يتم ذلك؟ وما هي الأهداف العربية المشتركة إقليمياً ودولياً التي يُراد تعزيزها أو حمايتها أو تطويرها من خلال "رابطة الجوار العربي؟" وما هي الاستراتيجية التي يُبتغى تنفيذها وضم الجوار إليها؟ وما المعنى العملي والتطبيقي لذلك كله؟ وما الذي سيقدمه العرب لدول الجوار ليملأوا النواقص والاحتياجات التي تواجهها تلك الدول وتجعلها مقتنعة بالانضمام إلى "الرابطة"؟ الجواب المؤسف على كل تلك الأسئلة هو "الفراغ واللاشيء". وهكذا وبسبب غياب أي فعل وفاعلية عربية حقيقية فإنه يُستعاض عن ذلك كله بطرح صيغ إقليمية فضفاضة إطارية لكن غير جوهرية حتى لو تحققت، وكأن الشكل والشعار والصيغة العامة تعوض عن فقدان الجوهر والمضمون.
ثمة بطبيعة الحال عوامل وهواجس وقلق تقف خلف الرغبة في صوغ علاقات عربية صحية وتعاونية مع الجوار، لكن حسن النيات لا قيمة له من دون أسس عملية ومصلحية على الأرض. وهنا يمكن القول إن الهاجس الإيراني وكيفية احتوائه هو العامل الأساس وراء الفكرة، وهو هاجس عربي حقيقي. ولا يكفي القول هنا إن إسرائيل هي مصدر التهديد الأساسي للأمن القومي العربي، لـ "نقض" الهواجس الأمنية والاستراتيجية العربية إزاء إيران النجادية. ومن المهم أن يتم فتح حوار فاعل وصريح مع إيران يسبق أي صيغة من صيغ التعاون الإقليمي. وربما ان ما كان مطلوباً وقيد التحقيق هو إقامة آلية دائمة لحوار خليجي - إيراني، تمهد الطريق عبر المكاشفة الجماعية لأي تطور تعاوني مستقبلي.
وهكذا وفي شكل مجمل فإن فكرة "الجوار العربي لا تعاني فقط من غياب أية بنية إقليمية لمنظومة عربية قوية يمكن أن تشكل اساساً لأي توسع إقليمي مهما كان شكله، بل تطرح نفسها على "الجوار" في أسوأ وقت يتجسد فيه "الفراغ الإقليمي العربي".
وكأن الدعوة هنا تُقدم الى دول نشطة وقوية وذات برامج وأجندات إقليمية مثل تركيا وإيران كي تملأ الفراغ الإقليمي الناتج عن التلكؤ العربي وعدم الفاعلية. وهاتان الدولتان على وجه التحديد تتحركان في الإقليم العربي بنشاط وتأثير، كل لأهداف ومصالح خاصة بها، من دون الحاجة إلى الرابطة المقترحة. لم نعرف على وجه التحديد إن كانت فكرة الرابطة ستتيح للدول العربية أن تتحرك في الفضاءين التركي والإيراني أم لا. لكن لنا أن نتوقع غياب أي رغبة أو إرادة لدى الدول العربية في القيام بذلك، فهذه الدول لا تتحرك في فضائها الخاص بها فضلاً عن فضاءات الآخرين.