جريدة الجرائد

العراق والتراشق السياسي

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك


أحمد ناصر الفيلي


منذ سقوط الدكتاتورية وصفاء سماء البلاد من غيوم عبوديتها ووسائل استلاباتها النفسية والفكرية، لم تتحرك سائر القوى السياسية نحو ترصين المواقع المنتهكة بفعل تلك السياسات المبتذلة، وعلى عقود متعاقبة نخرت في العقول الذبيحة وشلت الطاقات المتعددة قرباناً لوتد السلطة التي من أجلها سُملت العيون، وتقطعت الأبدان وخلفت آثار ومخلفات بحاجة إلى جهود وطنية مخلصة وخالصة، لأن غسل أدران الماضي هو من أولى الموجبات الوطنية.
وبرغم الماضي الثقيل الزاخر بألوان المعاناة، وشتى صنوف الآلام والتي تشكل منعطفاً حيوياً من أجل قراءته بوعي لفك التلازم القسري بين سياسة الجبر والإكراه، والتطلعات المشتركة للمكونات العراقية التي تعد إحدى ميزات تلك المراحل الغابرة، ففطنة النخب تغيب وتتغيب عن دروس كثيرة قريبة وبعيدة، وتلك مواصلة شاذة لواحدة من أسوأ ممارسات الماضي المفضية إلى ضياع المشتركات المؤدية إلى التلاحم والحوار والمنطق العقلاني الذي يذلل الصعاب ويفك العقد المزمنة ومواريثها الكريهة.
افتقاد الأرضية المشتركة بين المكونات الاجتماعية العراقية مثلت حجارة سنمّار في بناء الدولة العراقية في أغسطس عام 1921، وحيث الحاضر الجديد حينها مثّل امتدادا لماضٍ تعسفي بغيض، فعاشت دولة مهزوزة تمزقها الصراعات، وحبلى بأشكال المؤامرات التي استنزفت الموارد البشرية والاقتصادية وما تزال تداعياتها حتى اللحظة تساهم في تحطيم مجتمعي منظم، إلى جانب خسارة الطاقات الطبيعية والبشرية والتي شخصت العيون إلى الخارج في كل الاحتياجات والموارد، وتلك تبعية ذاتية بامتياز لم يفرضها محتل أو غازٍ، وساهمت في ضياع شيء من الاستقلال بالضرورة، وقيدت الإرادة بالحاجة. تلك إحدى محن الأمس أترى تنفع الذكرى؟!. بناء هيكل ارتكازي لأصول المفاهمات، والحوار، والتواصل أمر ضروري من أجل التطلع إلى المشاورة الخارجية البعيدة عن الواقع وحركته، والحاملة لمنظار يفتقر إلى جوانب القراءة المتعددة، كونها منطلقة من بعد أحادي بلغة المصالح والتي ما أكثرها في ظل سباق النفوذ المحموم، وحسابات مجريات الصراع، بعد أن أصبحت البلاد ساحة مكشوفة لشتى أشكال المطارحة.
عقدة التشاور على طريقة استقدام آراء الآخرين لشجون داخلية تضيف منقصة جديدة لاستقلالية الرأي الحصيف، وغياب النظرة الموضوعية، ومراهقة سياسية تفتقر إلى النضوج والتحسب، فجوهر التشاور الخارجي في كل مكان أبدى وجهة النظر الوطنية إزاء قضايا إقليمية ودولية مشتركة، ورحلة بحث عن رؤية مشتركة، لكن تبني رأي الآخرين من خارج السور العراقي في قضية وطنية هي لعبة خطرة، وفي نفس الوقت مضحكة، وهي إحدى العقد التي عاني منها العراق كثيراً، وحيث عدد من ساسته في عهديه الملكي والجمهوري صرحوا بأنهم أقدموا على اتخاذ قرارات ظالمة لمكونات عراقية بناء على متطلبات سياسية تم إملاؤها من الخارج وآخرهم رأس النظام المخلوع.
في تاريخ العراق السياسي ثمة أسلوب للتعبئة لأهداف تتنافى مع أهداف ومصالح المجتمع، لكنها ظفرت بشيء من المقبولية والتدافع، لاعتمادها العزف على أوتار العاطفة وشبوبها على أنغام أيديولوجية، وطروحات فكرية، ومواقف متصيدة في المياه العكرة، فهل من مصلحة لتوظيفها مجدداً ونحن نتحدث عن عراق جديد؟!. وما الجديد إذ يتم بعث القديم بثوب مهلهل جديد لا تغيير فيه سوى شخص الفاعل وهويته، والتي ما عادت تتماشى مع الإيقاع السياسي المتغير دورانه في أرجاء المعمورة، ألا يكفي أنها تذكّر البلاد والعباد بماضي بغيض وفصل مسرحي مخادع.
في مجرى المشهد السياسي وتداعياته المتدحرجة لا تلوح في الأفق أية شاردة أو واردة على جهود متجهة نحو صياغة أرضية جامعة بمفردات وطنية تنأى بأوضاع البلاد المزرية، وتتجه نحو درء مخاطر المهاترات الفوضوية، والعنتريات البائسة، والانتباه إلى أوضاع البلاد التي مازالت ترزح تحت ثقل مواريث السياسات السابقة، وآثار الحروب الكارثية، والتدمير والتي لم تمتد إليها يد الإعمار والبناء، بل أضافت الأوضاع الجديدة بأخطائها وحداثتها، ولغة السلطة ومكاسبها هماً جديداً لم تألفه من قبل، ولا ندري لِمَ التهديد والوعيد في بيوت الزجاج؟!
غياب وحدة المواقف والاتفاق عامل في تعليق العديد القضايا الوطنية وملفاتها وتعريضها للتدويل والمحاكاة الخارجية التي لا تنظر بعين الوطن، فضلاً عن إساءتها إلى تاريخ البلاد الحافلة أرضها بإرث حضارات مشهودة، ومن هنا تنبع أهمية إدراك القوى السياسية لتولي معاولها شطر الحفريات السوسيولوجية والسياسية من أجل انتزاع المشتركات من بطون التاريخ بدلا من صراع الديكة، فهذا أجدى وأنفع. ارتهان الحاضر بإرادة محاصرة من شأنها جر البلاد إلى أتون دوامات موجعة، لا تستطيع منه فكاكا في المنظور القريب، وآية ذلك لغة التهديد والخطابات النارية برهن المكاسب السلطوية، والتي تتحدث عن الرجراج الذي سيطال الاستقرار السياسي، وكأن الاستقرار المهزوز المتحقق قد امتلك زمام المبادرة نحو بلاد أكثر أمناً ورخاءً. لكن في لغة السياسة الدارجة لم يسمع أحد بارتهان أمن المجتمع لغايات سياسية من قبل قواه السياسية وهي سابقة تسوقها الفصول المرة من التجربة العراقية الجديدة التي تفتقر في بعض مفرداتها من قبل البعض إلى الحياء المجتمعي والخجل الأخلاقي.
تتوالى الأشهر فيما الفرقاء السياسيون بانتظار نتائج القرعة عسى أن تميل الكفة لأحدهم وسط تناسٍ ساذج للمتطلبات الدستورية ومحدداتها العددية بشأن تشكيل الحكومة وما يتطلبه ذلك من تحالفات. لا شك أن هناك مساجلات منتظرة، ومناظرات عقيمة حال ظهور النتائج، بدلا من التفكير الجدي لإيجاد مخارج للحالة الراكدة التي تشير إلى توقف استثنائي غير مقبول على طريق مواصلة المشوار الديمقراطي، والسير الحثيث نحو إيجاد المزيد من فرص الحلول المتاحة والبدائل المقبولة، كي تستقيم حالة البلاد والعباد.
تبنّي المواقف التصعيدية الصلبة، والدخول في معمعات متواصلة، وتأجيج نيران التراشق السياسي سيولد أزمة سياسية تقود دوامة الدوران في الحلقات المفرغة، والتي لا تعكس سوى اللامبالاة تجاه ما يجري على أرض الواقع من كوارث مزرية، تتعلق بأبعاد سياسية، واجتماعية، واقتصادية حافزة لخلق إشكاليات معيقة لبناء الشراكة المفترضة بين المجتمع والنخب السياسية من أجل مصداقية المشروع السياسي، ونيله الثقة المطلوبة والتي تفصح عن نفسها من خلال العزوف عن المشاركة في الانتخابات وبنسبة وصلت إلى %40 بشكل تدريجي ومتصاعد. فقدان الثقة وضياع المعايير مؤشر يستهدف ركن البناء الأساسي في العملية السياسية الديمقراطية وهو المجتمع، وما يدفع ذلك إلى تكسرات ومشكلات بعضها خارج عن السيطرة. إن البلاد بحاجة حقيقية إلى تفهم وإدراك النخب السياسية لمتطلبات المرحلة وضروراتها وحساسيتها ومقابلة ذلك بما تقتضيه من تضحية، ففي خميرة الفوضى وأطنابها يخسر الجميع المباراة بحسرة وندم، ولينظروا في تواريخ الأيام السالفة، ولغة البارحة، وحجم الوعود، وعسى أن يستقيم الجدل وتصحو الحالة.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف