جريدة الجرائد

الهيمنة الإسرائيلية على السياسة الأميركية

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

صالح عبد الرحمن المانع


يتعجب الكثيرون في جميع أنحاء العالم من ضعف الساسة الأميركيين أمام الضغط الصهيوني عليهم. وقد جرت العادة بين المحللين أن ينسبوا هذا الضغط إلى القوة السياسية للوبي الإسرائيلي خاصة في الكونجرس، والقدرة على تمويل العمليات الانتخابية، أو منع الأموال عنها، وكذلك القدرة على التأثير على الصحافة المقروءة والمرئية.

غير أن هذه الأسباب على أهميتها غير مقنعة، فالولايات المتحدة كأكبر دولة في العالم في الوقت الحاضر لها مصالحها التي تتعدى مصالح بعض الدول الحليفة لها، حتى لو كانت إسرائيل. ولقد شهدنا كيف تقود السياسات الأميركية بعض السياسات الأوروبية خلفها، وخلف قراراتها، كما شهدنا مؤخراً قدرة الإدارة الأميركية على تغيير الإدارة اليابانية، وتعيين زعماء سياسيين أكثر قرباً من سياساتها ومصالحها.

غير أن إسرائيل تتمتع بشبه هيمنة مطلقة على السياسة والساسة الأميركيين، وحتى على مستوى النخب المثقفة.

وقد شهدنا قبل أيام قليلة كيف أن واحدة من أهم الصحافيات الأميركيات "هيلين توماس" قد اضطرت إلى تقديم استقالتها والتقاعد من عملها كعميدة لصحافيي البيت الأبيض بعد أربعين عاماً من خدمتها في هذا المنصب، بعد أن انتقدت السياسة الإسرائيلية، ووصفت الإسرائيليين بالمستعمرين للأرض الفلسطينية، وأن عليهم أن يرحلوا إلى البلاد التي قدموا منها. ولم تقل السيدة توماس غير الحقيقة، ولكنها جوبهت بتنديد واستنكار لمقولتها من قبل المتحدث الرسمي باسم البيت الأبيض، ومن قبل جمعية الصحافيين العاملين فيه.

وقبل ذلك كان هناك عدد من الأكاديميين الأميركيين الذين أزيحوا عن مناصبهم بمجرد انتقادهم للهيمنة التي يمارسها اللوبي الصهيوني على السياسة الأميركية وعلى المجتمع الأميركي. ويمكن أن ينطبق ذلك أيضاً حتى على الرئيس الأميركي الأسبق "جيمي كارتر" الذي أصدر كتاباً قارن فيه السياسة الإسرائيلية بسياسة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا. وقد اضطر كارتر إلى تقديم اعتذار إلى أعضاء اللوبي الصهيوني كي لا يقفوا ضد ترشيح حفيده لمنصب سياسي في فلوريدا.

والحقيقة أن هناك شعوراً بالذنب يعم معظم أوساط المثقفين والساسة الأميركيين تجاه اليهود وما حلّ بهم في الحرب العالمية الثانية. ويصحب هذا الشعور خوف من أن يوصموا من قبل اللوبي بأنهم "أعداء للسامية"، وهذا يجعلهم في نظر الآخرين في صف يشبه صف النازيين أو الفاشيين.

وقد استغلت إسرائيل وأنصارها هذا الشعور بالذنب الجماعي للحصول على كل ما تحتاج إليه من مال وسلاح ودعم سياسي، وذهب الساسة الإسرائيليون وأعوانهم إلى دفع الولايات المتحدة إلى القيام بحروب في المنطقة كبديل عنها. ولن ينسى الكثير من الأميركيين أن الذي دفع بهم إلى احتلال العراق، تحت مقولات وادعاءات كاذبة، كان اللوبي الصهيوني المتحالف مع اليمين المحافظ.

ولن تتوقف إسرائيل عن دفع حليفها الحميم إلى حروب جديدة، مما حدا بالقادة العسكريين الأميركيين إلى إطلاق أصوات تحذيرية أمام رجال الكونجرس من أن مثل هذه الحروب بالوكالة قد أضرت وتضّر بالأهداف القومية للسياسة الأميركية، وربما أصبحت عبئاً عليها. ومثل هذه المقولة وغيرها تثبت أن الهلع الأميركي من الإسرائيليين والشعور بالذنب تجاههم ليس له ما يبرره، خاصة إذا كان هذا الشعور يخلق ظلماً جديداً لشعب يئن تحت الاحتلال والحصار. كما لا يمكن مطلقاً قبول مثل هذا الشعور بالذنب إذا كان ينتج عنه قتل أو جرح مدنيين عزّل، ومن بينهم عدد من اليهود الأوروبيين وعلماء حازوا جائزة نوبل في تخصصاتهم، وكل ذنبهم أنهم ذهبوا لنجدة قوم ليسوا من بني جلدتهم ولكنهم يطلبون مساندتهم وإغاثتهم.

وإذا ما كان الأفراد، كما يقول علماء النفس، بحاجة إلى الاعتراف بالذنب الذي اقترفوه حتى يمكنهم التخلص منه، فإن على الولايات المتحدة أن تعترف بأن الذنب الذي اقترف بحق اليهود الأوروبيين لم يكن له أي مبرر، كما أن جزءاً من عملية التخلص من الشعور الجماعي بالذنب هو دفع تعويضات مالية لأولئك الذين تضرروا منها. وقد دفعت أوروبا وأميركا، ولا زالتا تدفعان للإسرائيليين كل ما أوتيتا من مال وسلاح ومعونات على المستويين الحكومي والشعبي.

ولكن لابد لكل شعور بالذنب أن يصل إلى نهايته، وإلا كان شعوراً أبديّاً لا نهاية له. وكما يقول علماء النفس، فإن الشعور بالذنب خاصة على المستوى الجماعي، هو أمر غير عقلاني. ولا يمكن مجابهته إلا بالعودة إلى المنطق، والمنطق يقول إنه لا يمكن إنهاء ظلم سابق بخلق ظلم جديد.

والمسألة ليست بالضرورة ذات طابع أخلاقي، فالسياسة الأميركية المنحازة لإسرائيل أصبحت عبئاً على صانع القرار وعلى مصالح الشركات والأفراد، وعلى صورة الولايات المتحدة في الخارج، ولذلك فإن مسألة العودة إلى العقلانية لن تكون بعيدة المنال، خاصة مع ظهور قوى دولية جديدة وسطى باتت تنافس الولايات المتحدة اقتصاديّاً، وتبني نفسها بهدوء كدول ذات احتياطي نقدي كبير، وطبقة وسطى متسعة، بالإضافة إلى كونها دولاً ذات كثافة عمالية ضخمة.

إن الولايات المتحدة دولة عظمى تتمتع بالقوة الضاربة والقوة الناعمة لكن سياساتها الخارجية بدأت تفقد شرعيتها، خاصة بدعمها الأعمى للعنف والهمجية الإسرائيلية. وحين تفقد أي دولة شرعيتها في السياسة الخارجية، فإن هذا يعني تآكل قوتها الناعمة. وهذا لا يعني أن تصبح الدول العظمى ضعيفة حين تفقد التوازن بين القوة الناعمة والقوة الضاربة، بل قد يبدو أنها ستنغمس أكثر في استخدام قوتها الضاربة، وهذا الاندفاع نحو الصراع والقلاقل يكلفها ويرهق ميزانياتها، وهو ما يؤثر سلباً على اقتصاداتها، ومستوى الضرائب السائدة فيها، مما ينعكس بدوره على دورة الاستثمارات فيها، وهكذا.

إن هذا التداخل بين القوة الناعمة والقوة الضاربة يعني أن الدول الصراعية ستخسر الرهان لصالح الدول التجارية، وبينما يبزغ نجم الدول التجارية، فإن أفول الدول الصراعية سيكون أمراً محتملاً إلى حد كبير.

وعندئذ سيذهب الإسرائيليون ويحتمون بحليف جديد، ولن يذرفوا أية دمعة على مصالح الولايات المتحدة. وقد فعلوا ذلك من قبل مع فرنسا وبريطانيا حينما أفل نجمهما بعد الحرب العالمية الثانية. وهم حتماً سيفعلون ذلك مع الولايات المتحدة، وحينها ربما سيشعر الساسة الأميركيون بالذنب تجاه ما فعلوه بالفلسطينيين.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف