حتى لا يتم إفساد اللحظة التاريخية وتقترب لحظة كسر الحصار
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
صلاح الجورشي
يمكن القول إن الصراع مع العدو الإسرائيلي قد انتقل منذ الاعتداء على أسطول الحرية من المجالين العسكري والخطابي، إلى المجال الرمزي. وقد لا يقدر البعض أهمية النضال الرمزي في المعارك السياسية المهمة، في حين قد يبالغ البعض في تضخيم المكاسب التي تحققت حتى الآن، دون التفكير الجدي في حمايتها وتعزيزها، حتى تستمر الجهود الجارية حاليا لإحكام الحصار حول الحكومة الإسرائيلية.
المقصود بالنضال الرمزي: استحضار مختلف العناصر التي يمكن أن تساعد في تشكيل الصورة الحقيقية للعدو، بعد أن نجح طيلة الفترة الماضية من الصراع في تسويق صورة مزيفة أكسبته تعاطف جزء مهم من الأوساط الفاعلة في العالم، إلى جانب دعم الحكومات الغربية وحتى غير الغربية. وتعتبر الحركة الصهيونية من أكثر الحركات التي نشطت بشكل مكثف، ولفترة طويلة من أجل ترسيخ صورة إيجابية عن مشروعها السياسي، واستعملت لتحقيق هذا الهدف كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، بما في ذلك تزوير التاريخ، وتوظيف الأساطير الدينية، والتفوق في استعمال الصورة والشهادات الموثقة، وغير ذلك كثير. وهكذا ترسخت لدى الغربيين بالخصوص صورة الشعب اليهودي الذي تعرض للاضطهاد عبر التاريخ، وهي الصورة التي استمرت حتى بعد أن تحول قادة هذا الشعب إلى جلادين وقامعين مغتصبين لأرض غيرهم. وهي الصورة التي آن الأوان لكي تكتشف القوى المحبة للسلام في العالم بطلانها. وهذا الاكتشاف لن يكون له أثر فاعل، إلا عندما يتوصل إليه الغربيون أو جزء منه بأنفسهم من خلال الاصطدام مباشرة بالإسرائيليين، والتعرض إلى أذاهم، والتعرف على جرائمهم من دون وسطاء محليين.
هؤلاء سيكونون الشهود الأكثر مصداقية وتأثيرا من عشرات الكتب وبيانات التنديد. وللقيام بهذا الدور، هناك المئات من الجمعيات والشخصيات الاعتبارية المنتشرة عبر العالم. هؤلاء لم يكتفوا بمجرد التعبير عن استعدادهم للقيام بهذا الدور، بل إن العديد منهم قد شرع فعلا في تنفيذ ما أمرتهم به ضمائرهم. ولهم تقاليد عريقة في النضال غير العنيف عندما يؤمنون بقضية عادلة. إنهم النبض الحي في مجتمعات السوق والرفاه والهيمنة والغش.
الآن تجري محاولات لاحتواء المكاسب التي تحققت إثر الاعتداء على أسطول الحرية لغزة. إلى جانب إسرائيل هناك جهود أميركية وأوروبية تعمل على الالتفاف حول مطالب رفع الحصار كليا أو جزئيا، ووضع العراقيل أمام تحقيق دولي مستقل. والحجة المقدمة لتبرير هذه المحاولات تتمثل في عدم مجازاة حركة حماس. أما الجهد الأكبر الذي تبذله الأوساط الصهيونية في مختلف العواصم الغربية، فهو منصب لإثبات أن المتطوعين الذين كانوا على ظهر تلك السفن ليسوا نشطاء محايدين، وإنما ينتمي معظمهم إلى حركات إسلامية "متطرفة أو راديكالية" حسبما ورد في عديد التقارير التلفزيونية أو الصحافية.
ما المطلوب إذا لإجهاض هذه المحاولات والجهود، حتى تستمر إسرائيل محشورة في الزاوية، وتبقى قضية كسر الحصار على غزة مطروحة بإلحاح على الصعيد العالمي؟
هناك ثلاثة محاذير يجب العمل على تجنبها خلال هذه المرحلة بالذات:
أولا: ضبط النفس، وعدم لجوء الفصائل الفلسطينية المسلحة إلى إطلاق صواريخ على المناطق الخاضعة للاحتلال الفلسطيني، أو التفكير مثلا في القيام بعملية استشهادية داخل مناطق الخط الأخضر. حكومة نتنياهو في أشد الحاجة لأي حادث من هذا النوع لتعيد إبعاد الاهتمام الدولي عن تداعيات الجريمة التي ارتكبتها في عمق البحر، وتموقع نفسها في خندق الضحية والدفاع عن النفس.
ثانيا: جيد أن ينخرط الإسلاميون في مختلف أشكال النضال اللاعنفي الهادف إلى كسر الحصار. وجميل أن يشترك إسلاميون مع نشطاء من مختلف الجنسيات والعقائد والاتجاهات، لكن قد تختلف النتائج والتداعيات إذا تضخم دورهم في هذا المجال، أو تحولوا إلى الطرف المحوري في التخطيط وتنفيذ هذه المبادرات. إنهم بذلك قد يعطون فرصة لخصوم القضية حتى يعملوا إعلاميا ودبلوماسيا على إثارة الشكوك حول هوية القادمين من البحر. كما أن انخراط نشطاء فلسطينيين من حركة فتح أو قريبين منها في قوافل السفن من شأنه أن يكون أفضل رد على معضلة الانقسام، وأفضل صيغة متاحة حاليا لترميم الصف الفلسطيني في وجه الغطرسة الإسرائيلية.
ثالثا: تجنب الدخول في أي إشكال مع الحكومة المصرية، واستثمار حالة الانفراج الحالية، وتعميق التشاور مع الأمين العام لجامعة الدول العربية، وكذلك مختلف حكومات المنطقة. بمعنى آخر: العمل على توسيع الكوة الأخيرة التي فتحتها صدمة الاعتداء على النشطاء المدنيين، واستثمار الأجواء الإقليمية والدولية الجديدة التي دفعت الجميع، بما في ذلك جزء من الرأي العام الإسرائيلي، إلى الاعتقاد بأن استمرار الحصار على غزة لم يعد مجديا ولا مقبولا.
الخلاصة أن المقاومة أشكال، وأن لكل شكل استراتيجيته وشروطه وضوابطه وثمنه. هناك مناخ جديد بدأ يخلقه النضال الرمزي الذي يعتمد على إبراز عنجهية الجلاد في مقابل عدم لجوء الضحية إلى العنف وتوسيع قاعدة الشهود غير المطعون في مصداقيتهم؛ لهذا أصبح الجميع مطالبين بعدم إفساد هذه اللحظة التاريخية.