جريدة الجرائد

العراق والنموذج الأميركي

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

وليد نويهض

ليس مهماً أن تكون الإدارة الأميركية السابقة قد خططت عن عمد تدمير العراق وتقويض دولته وبعثرة هويته العربية وتمزيقها إلى أشلاء طائفية ومذهبية وأقوامية ومناطقية أو أن الانهيار العام حصل عفوياً ومن دون إدراك للمخاطر الناجمة عن الاحتلال.

المسألة ليست مهمة حين تكون النتيجة التي آل إليها الوضع في بلاد الرافدين تساوي الكارثة في كل الحالات والتوقعات. فالنتيجة هي الموضوع وغير ذلك يصبح من الافتراضات والتحليلات التي تقرأ ما حصل انطلاقاً من نظريات تتفاوت في تعاملها العقلاني مع واقع أصبح مثالاً للأسوأ في كل المواصفات والصفات.

في هذا المعنى تصبح نظرية "المؤامرة" الذكية تساوي في دلالاتها نظرية "الخطأ" في التعامل مع الملف العراقي. فإذا كانت المؤامرة تعني الذكاء السياسي واختبار القوة والعبث في مصير شعب فإن الغباء السياسي لا يبتعد في نتائجه عن نهاية معادلة أسفرت حتى الآن عن مقتل أكثر من مليون إنسان وتشريد نحو ستة ملايين وتقسيم الدولة إلى دويلات وتوزيع الطوائف على مناطق متجانسة مذهبياً وتدبير ديمقراطية عشوائية واختراع دستور طفولي يفتقد إلى الحدّ الأدنى من الوضوح في تمييز الصلاحيات والفصل بين السلطات.

ليس مهماً أن تكون هناك مؤامرة أميركية مدبرة تعمدت عن قصد دفع العراق إلى هذا الدرك من الانهيار العام والفوضى الدستورية والتوتر الأهلي والقتل اليومي أم أن ما حصل ويحصل هو نتاج قصور في وعي الإدارة الأميركية السابقة أدى إلى خروج الأزمة عن السيطرة وتبعثر أوراق الملف إلى أدوات ميليشاوية لا تتردد في إثارة القلاقل المذهبية لتحقيق مكاسب رخيصة. فالمسألة لا منطق لها حين تكون النتيجة واحدة ومتشابهة في صورها وزواياها.

العراق أصبح خارج المعادلة. وساحته تحولت إلى ملعب للتجاذب الإقليمي اعتماداً على أدوات (جيوب) مذهبية تحتكر السلطة بعقلية تكره وتعادي السياسة. وهذا النوع من التجاذب الإقليمي الذي يعتمد معادلة مذهبية بعيدة عن السياسة سيؤدي في النهاية إلى انشطار بلاد الرافدين وتوزعها على أقاليم طائفية لا تعطي أهمية لفكرة الدولة وما تعنيه من تصورات ذهنية تفترض وجود قانون ينظم العلاقات الأهلية بين المناطق. فالعقل المذهبي يبدأ من العدم ولا يقرأ سوى ما يناسب رؤيته المقفلة على حقائق نهائية ترسم خطوط تماس مع الأطراف الأخرى.a

هذا العقل المنغلق على الذات يشكل الآن القوة التي تتحرك في مجالها الجماعات الأهلية في العراق. وبسبب هذا النوع من التفكير المحكوم بالطوائف والمذاهب والمناطق يمكن قراءة الكثير من المتغيرات السياسية التي تظهر يومياً في المشهد العام. فالأزمة بنيوية وليست أمنية كما حاول نائب الرئيس العراقي عادل عبدالمهدي شرحها وتوضيحها. الخلل الأمني ليس السبب وإنما هو نتيجة معادلة الانهيار وتفكك "الدولة" إلى دويلات طوائف وميليشيات مذهبية. حتى الجيش الذي أشرفت قوات الاحتلال على تأهيله وتدريبه وتسليحه ليأخذ عن الولايات المتحدة الدور الأمني بعد الانسحاب في نهاية 2011 تأسس على عقلية بعيدة عن منظور الدولة وعقيدة حماية الوطن والمواطن.

الانقسام الأهلي هو أساس الاختلال الأمني لأنه يشكل حتى الآن المجال الحيوي للحراك المذهبي والطائفي، ومنه يبدأ الخبر اليومي وصولاً إلى التفصيلات الصغيرة أو التحالفات الكبيرة. فالكلام عن "وطني" و"علماني" و"مدني" و"ديمقراطي" مجرد بالونات هوائية لا قيمة لها في قاموس السياسة الأهلية ولا دور لها في ساحة مفتوحة على تجاذبات إقليمية تعتمد في لعبتها المحلية على أوراق الطوائف والمذاهب.

هذه النتيجة (الفضيحة) التي وصلت إليها بلاد الرافدين هل كانت مؤامرة مدبرة من الإدارة الأميركية السابقة بقصد جرجرة المنطقة العربية وإيران وتركيا إلى مهلكة طائفية - مذهبية تضعف الدول والشعوب وتستفيد منها "إسرائيل" أم هي مجرد تداعيات جاءت بسبب أخطاء عفوية ارتكبتها واشنطن في أيام جورج بوش الابن؟ ليس مهماً الجواب مادامت الوقائع الميدانية تؤشر إلى أن العراق خرج من معادلة الصراع وأصبح موضوع مساومة وورقة تتجاذبها الطوائف والمذاهب في الداخل لمصلحة فروع وامتدادات إقليمية.

ما يحصل في العراق هو المهم. أما تفسير الأسباب والعوامل والدوافع متروكة للتاريخ حين تكشف تقارير المخابرات بعد ربع قرن تلك الاتصالات واللقاءات والاتفاقات التي سبقت الموضوع ومهدت للحرب والاحتلال. الآن، وهذه هي النتيجة، تتحمل الولايات المتحدة المسئولية الدولية والمعنوية والأخلاقية عن المصير الطائفي - المذهبي وانشطاراته الإقليمية الذي آل إليه العراق. فالنموذج الذي وعد به بوش الابن أبناء المنطقة كما يبدو تحقق حتى لو أنكرت الإدارة الأميركية معرفتها أو اطلاعها المسبق على خريطة الموضوع.

المسألة لا صلة لها بالنوايا والحسنات والسيئات بقدر ما هي متصلة بالوقائع والنتائج مهما كانت المبررات والأعذار. التاريخ في النهاية علم تتجمع في محصلته الأسباب والمسببات. والقراءة الموضوعية للمشهد العراقي تؤشر إلى أن النموذج العراقي كما هو عليه اليوم هو بالضبط ما كانت تريده واشنطن في فترة بوش.


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف