جريدة الجرائد

تركيا: لا تؤيدوها لكن لا تسفّهوها!

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

عبدالوهاب بدرخان


إحدى أسوأ إشكاليات العرب، منذ عقد تحديداً، انهم اندفعوا الى "سلام" مع إسرائيل ظنوه آتياً تلقائياً، وأعفوا أنفسهم من أعباء إدارته، متكلين على "الأخ الأكبر" الأميركي الذي برهن مراراً وتكراراً، سراً وعلناً، انه لا يهتم إلا بمصلحة إسرائيل أولاً وأخيراً.

وعندما بانت أوهام هذا "السلام" وتعطلت عجلته، اكتشف العرب ان الصلح الإسرائيلي مع دولتين لا يعني أن سلاماً قد حلّ، وان المشكلة لم تحلّ بدليل ان ثلاث دول أخرى كأنما أبقيت على قارعة الطريق لتواجه وحدها خذلان السلم وضرورات الحرب.

جملة أحداث ومتغيرات تزامنت: فشل المفاوضات على المسارين الفلسطيني والسوري واندلاع المفاوضات، الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان واستمرار المقاومة، عودة الشارونية المستشرسة مع ترخيص أميركي بالفتك بالانتفاضة، إدارة أميركية موتورة بعد أحداث 11 سبتمبر، غزو العراق واحتلاله لتحقيق أهداف كثيرة بينها التطهير الاستراتيجي للشرق الأوسط تدعيماً لموقع إسرائيل وموقفها، وطبعاً بروز إيران نتيجة هذين الغزو والاحتلال... لكن الثابت الوحيد خلال هذه المتغيرات كان رسوخ الضعف والتراجع العربيين وتفاقمهما.

مع حربي لبنان وغزة أعيد العرب الى ما قبل "عملية السلام" ليكتشفوا انهم أصبحوا عرباً آخرين، مستائين من الجميع ومن كل شيء، من أميركا وإسرائيل وأوروبا، لكن على الأخص من بعضهم بعضاً، وأولاً وأخيراً من إيران. فالثغرة التي تركها الأميركيون في عملية السلام، وسمحوا للإسرائيليين بتثبيتها، كانت ولا تزال مفتوحة لمن يرغب في دخولها، وأخفق العرب في سدّها، فدخلها الإيرانيون. لديهم مصالح؟ طبعاً، وهل يمكن تصوّر العكس. خاضوا الحروب التي لا يعتبرها العرب ضرورية، ويطمحون لخوض معارك السلم التي يراها العرب خيارهم الوحيد المتاح.

ما كان لحصار غزة أن يكون أصلاً، سواء شرّعته "الرباعية" التي تستعد الآن لتشريع تخفيفه أم لا، إذ إن العقلية الإسرائيلية المريضة التي ابتدعته لا تنتمي الى عصر الدولة. فالحصار لا يتعلق فقط بـ "حماس" وبما تعنيه أو تفعله، بمقدار ما يتعلق باحتقارٍ عارٍ للإنسان نفسه. كان يفترض أن يكون كسر الحصار قضية العرب قبل سواهم، لكن قرارهم المسبق بأنهم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً كان الخطأ الفادح الذي فتح ثغرة أخرى راحت تتوسع وتستدعي أيضاً من يرغب، وأخفق العرب حتى مع افتراض وجود النية لديهم في سدّها، فدخلها الأتراك هذه المرة. هل نقول: لديهم مصالح؟ فليكن، فالمنطقة كانت ولا تزال بحاجة الى من يقول للإسرائيليين: كفى تعني كفى... وقد قيلت لهم من منطلق إنساني، ومن دون توتير حربي، بل حتى من دون تحريض مفتعل للشارع العربي.

بعيداً من الهتافات الجوفاء، أو الشماتات الرخيصة، أو التشكيكات المبالغة، الأفضل أن لا ينظر العرب الى الدورين الإيراني والتركي بالمعايير ذاتها، واستطراداً لا تصلح المصطلحات نفسها لتقييمهما. فإذا لم يستطع العرب التمييز بين ما يبدو من إيجابيات في الدور التركي، وبين سلبيات الدور الإيراني، فلا بد أن تكون المشكلة عندهم، أي عند العرب. وإذا لم يروا الفارق بين أن تقف تركيا الى جانب إسرائيل أو الى جانبهم، فهذا لا يعني سوى ان إحباط العرب بات يدفعهم الى الضياع، فلا يعرفون كيف يكسبون أصدقاء أو حلفاء، وإذا صادقهم أحد أعرضوا عن صداقته، وإذا حالفهم أحد يخذلونه ولا يتوقعون منه سوى الخذلان، وإذا عاداهم أحد لا يحسنون مواجهته ولا ردعه.

تركيا تخدم مصالحها بلا شك، لكن الاشتباه بأنها تسعى الى إحياء الخلافة، أو الى استعادة أمجاد السلطنة العثمانية، أو حتى الى الهيمنة على العالم العربي، لا يعدو كونه افتراضات تتجاهل ان تركيا تدرك أين تعيش وفي أي عصر ووسط أي متغيّرات. فلا هي ضد أميركا أو خارج فلكها، ولا هي تمشرع لحلف مع ايران، ولا هي متهافتة لتسلم ملف فلسطين بالنيابة عن العرب. وطالما ان العرب يريدون ان يبقى الملف الفلسطيني في كنفهم فليحتكروه، لكن فليفعلوا شيئاً، وإذا عجزوا وواصلت إسرائيل توظيف عجزهم واستغلاله فيجب ألا يحنقوا على الآخرين إذا فعلوا.

ثمة خياران في المنطقة. إما الحرب، وتبدو إسرائيل وكأنها في تفاهم ضمني وموضوعي مع إيران في شأنه. وإما السلام، وتبدو إسرائيل كأنها في خصام علني وموضوعي مع تركيا حياله. صحيح انها ليست على عداء مع تركيا، كما هي الحال مع إيران، لكنْ كلاهما كان سابقاً في عداد حلفائها، وإذ ينبري الآن لمناهضتها فلأن العرب تركوا فراغاً هائلاً في عقر دارهم. الفارق ان إيران تستثمر في نهج المقاومة لأن لديها نفوذاً تريد تحصيله، أما تركيا فترى ان هناك نهج اعتدال ينبغي تفعيله. ليست لدى تركيا أوهام، ولا رجب طيب أردوغان يحلم بأن يكون الخليفة العائد، بل انه مثل أي زعيم عربي يرى مصلحة لبلاده في أن يكون هناك سلام شامل وعادل ودائم في المنطقة. فالأفق العربي الذي أُلزم، مع "عملية السلام"، بالانفتاح على تعاون اقتصادي مع إسرائيل في إطار "الشرق أوسطية"، كما سماها الدجال شيمون بيريز، يمكن أن ينفتح برحابة أكبر أمام شرق أوسطية تبدو تركيا كأنها تتطلع اليها.

لدى العرب مصلحة في نجاح الدور التركي لأنه يتوازى مع أهدافهم ويواكبها. حان للعالم العربي أن يحصل على أمان حقيقي ليعمل وليُحاسب بعدئذ. ويمكن تركيا أن تكون عنصراً مسانداً لهم، وحتى لإدارة باراك أوباما إذا كانت جادة في تطلعها الى استقرار اقتصادي وسياسي للمنطقة. أما إسرائيل فبرهنت ان دورها الأساس أن تسمم المنطقة وتواصل تخريبها. فإذا تعذر على العرب، مع ذلك، أن يؤيدوا تركيا، فالأولى بهم على الأقل أن لا يسفّهوا مواقفها الجادة.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف