جريدة الجرائد

مَن يعاني أكثر مِن بين الفلسطينيين؟

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك


برهوم جرايسي


"من يعاني أكثر من بين الفلسطينيين؟"، والجواب هو أنه لا أشد شراسة من هذا السؤال، لأن الفلسطينيين باتوا رغماً عنهم في مشهد مثير للغضب والألم، وكأنهم "يتنافسون" على الألم. وتوارد هذا السؤال في ذهني بدافع السخرية المؤلمة، بعد جولتين في أسبوع واحد.. الأولى بين البيوت المهددة بالتدمير في القدس المحتلة، والثانية في البؤر الاستيطانية في مدينة الخليل القديمة، وفي الخلفية تقارير عن حصار غزة والمؤامرات المستمرة على المقدسات في القدس المحتلة، والقائمة تطول.
فالقدس في هذه الأيام بدت أمام ملف جديد وهو إبعاد الشخصيات السياسية المقدسية، على خلفية نشاطها السياسي، عدا الإبعاد للمواطنين بحجة عدم التواجد في مدينتهم من ستة أشهر إلى خمس سنوات، فقد أمرت قوات الاحتلال بإبعاد ثلاثة أعضاء في المجلس التشريعي الفلسطيني عن حركة حماس ووزير سابق من الحركة، ولكن كما يبدو فإن هؤلاء المبعدين "يفتتحون" قائمة تشمل 318 شخصية مقدسية من كافة الفصائل الفلسطينية، مهددة بالإبعاد.
ويطالب الاحتلال هذه الشخصيات بإعلان "الولاء" لدولة الاحتلال كشرط لبقائها في مدينتها، وهو مطلب لا يمكن أن تجده في أي مكان في العالم، سوى نظام يعتمد الإرهاب منهجا سياسيا رسميا له.
والقدس مستمرة في أنينها تحت وطأة الاستيطان وتضييق الحياة والجدار الفاصل العنصري، الذي يفصل أحياء بعشرات آلاف أهلها عن مركز المدينة، وبطبيعة الحال المؤامرة العنصرية التي تستهدف بالأساس الحرم القدسي الشريف والمسجد الأقصى المبارك وكافة المقدسات الإسلامية والمسيحية.
ولكن خطر تدمير البيوت بدأ يتزايد على حي سلوان المجاور للحرم القدسي الشريف، فبلدية الاحتلال تريد تدمير 22 مبنى تضم حوالي 60 بيتا، كي تقيم متنزهاً للمستوطنين، بزعم أن الملك (النبي) داود، حسب مفاهيمهم، كان يتجول في تلك المنطقة قبل أكثر من ثلاثة آلاف عام! ولا حاجة للتعليق أكثر، لأن هذا المنطق يؤكد أي عقلية إرهابية تتملك عقلية حكومة الاحتلال وأجهزتها المختلفة.
وحين تتجول في حي البستان الصغير -وهو جزء من حي سلوان- فإنك تسمع في كل زاوية فيه، عن شكل من أشكال جرائم المحتلين، ولكن كيف من الممكن أن نستوعب جريمة استدعاء طفل لم يكمل العاشرة من عمره للتحقيق معه ثلاث مرات، وفي كل مرّة كان الاستدعاء يصل إليه في الساعة الثالثة فجرا، لاعتقاله للتحقيق، بزعم أنه "قض مضاجع" الإرهابيين المستوطنين الذين ينتشرون في الحي، وأيضا هنا لا حاجة للتعليق أكثر، لأن المشهد يروي ذاته.
في اليوم التالي كنت مع وفد من النواب العرب في الكنيست من الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، نجحوا من خلال حصانتهم البرلمانية، في التجول في الأحياء المغلقة في وجه الفلسطينيين في البلدة القديمة في مدينة الخليل المحتلة، لتتحول هذه الأحياء إلى وكر المستوطنين الإرهابيين، وتنتشر فيها أخطر عصابات المستوطنين الإرهابية، التي منها من هو محظور حتى في الولايات المتحدة، وعلى الورق في المؤسسة الإسرائيلية.
ولكن هذا "الحظر" الوهمي تتكشف حقيقته من خلال الحماية التي يمنحها الاحتلال لعصابات المستوطنين، وقد جرت الجولة على مدى أكثر من ساعتين، على وقع الشتائم والتهديد بالقتل المباشر، وحينما سئل قائد فرقة قوات الاحتلال عن صمته أمام ما يجري، اعتبر أن التهديد بالقتل هو "حرية تعبير" في دولة اليهود.
ويقول أحد الإرهابيين لأعضاء الوفد: "إننا سنعالج أمركم، ونحن نعرف كيف نعالج أمركم بالأساليب الديمقراطية، تماما كما كان في دير ياسين"، ودير ياسين هي قرية فلسطينية مدمرة منذ عام 1948، وارتكبت فيها العصابات الصهيونية أكبر مجزرة ضد الفلسطينيين.
أكثر مشهد معبّر في هذا الجزء المحتل من المدينة، هو أن شارع الشهداء الضخم المغلق في وجه الفلسطينيين وكل متاجره مغلقة، وأكثر بيوتهم مهجّرة، تحرسه ثلاثة قطعان: قطيع المستوطنين، وقطيع كلابهم، وقطيع جنود الاحتلال.
في ذلك الحي سمعنا شرحا من جنود سابقين، لم يحتملوا الصمت على ما يجري في مدينة الخليل، أسسوا قبل سنوات حركة "كاسرو الصمت"، وهي حركة تنشر تباعا شهادات جنود الاحتلال الذين أنهوا خدمتهم، عن أشكال التنكيل والتعذيب الممارسة ضد الفلسطينيين، وما تنشره هذه الحركة يعتبر مستندات هامة جدا لتوثيق جرائم الاحتلال.
ومما سمعناه، أن بعض أصحاب البيوت الفلسطينية الذين نجحوا في البقاء في بيوتهم، يُحظر عليهم إطلاقا أن تطأ أقدامهم حتى رصيف الشارع، أما كيف يتنقلون، من وإلى البيت، فكما يبدو من خلال أسطح المنازل، أو من أبواب خلفية لمن له أبواب كهذه.
في الخليل يسكن 450 مستوطنا إرهابيا، مقابل أكثر من 170 ألف فلسطيني، ويضاف لهم 100 ألف آخرين سكان القرى والبلدات المجاورة، ويتحكم الاحتلال في مركز المدينة، ويشل حركة أحياء بأكملها، من أجل حماية هذه العصابات الإرهابية، التي هي الوجه الحقيقي لحكام إسرائيل وللحركة الصهيونية بفكرها وممارستها.
أما فيما يتعلق بقطاع غزة، فقد ارتقت "إنسانية حكام إسرائيل" إلى مستوى أربطة الأحذية وطلاء الأحذية التي سمح الاحتلال بدخولها إلى القطاع، "لتنفرج" ضائقة مليون ونصف مليون إنسان من حصار مستمر منذ نحو خمس سنوات.
ويُخطئ قادة إسرائيل إن اعتقدوا بأن هذا الاستبداد هو تنكيل ومهانة للشعب الفلسطيني، الذي بات عليه أن يستأذن الاحتلال برباط حذائه، بل هذه "بصقة" في وجه الهيئات الدولية بأسرها، التي لا تقف عاجزة، بل تتواطأ كليا مع الاحتلال الإسرائيلي وجرائمه، فهذه الجرائم المستمرة ستسجل على كل دول القرار في العالم، لأنها شريكة فيها من خلال تواطئها مع المجرمين من حكام إسرائيل.
هذه نماذج قليلة جدا من عذابات الفلسطينيين، فهل نسأل من يعاني أكثر من بين هؤلاء؟ تعددت الأشكال والبؤس واحد.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف