احتجاجات مطلبية وحراك سياسي في لبنان
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
سليمان تقي الدين
تتسع حركات الاحتجاج على الغلاء وتدني مستويات المعيشة وغياب الاستقرار الوظيفي وشبكات الأمن . المعلمون وسائقو التاكسي والميامون في مؤسسة كهرباء لبنان ونقابات الاتحاد العمالي العام . من جهة ثانية أظهرت الانتخابات البلدية هوامش مهمة من الاعتراضات على الاحتكار السياسي للسلطات المحلية . عشرات آلاف الأصوات صبّت ضد لوائح القيادات الطائفية لأسباب مختلفة، شخصية وسياسية وعائلية . قواعد الأحزاب غير الطائفية تضغط باتجاه فعل سياسي مستقل، والأحزاب الطائفية تتذمر عناصرها من البطالة جراء سيطرة اللعبة السياسية الفوقية وانخراط نخب هذه الأحزاب في السلطة .
لا نريد المبالغة في حجم هذه الظواهر كما لا يجوز التقليل من أهميتها . ما هو موجود من حراك ليس مشروعاً سياسياً وليس حركة اصلاحية . هذه حالات احتجاج على تفاقم أوضاع تضغط على حياة الناس بينما تتسع الفجوة بين التمثيل السياسي وهموم الجمهور . أولويات الناس التي ادّعى البيان الوزاري أنها في اهتماماته لم تحظ بأية معالجة . تتراكم المشكلات الصغيرة والكبيرة والمواطنون بلا مرجعية يشكون لها قادرة على المساعدة . تقف الدولة كلها عاجزة أمام قوى الاحتكار، في الدواء والغذاء، وأمام استباحة الملك العام والطبيعة والبيئة، وأمام الفساد المنظم الذي تتشارك فيه كل السلطات والنافذين .
هذا وضع يستدعي أن تتصدى له قوى المجتمع المدني وأن تحاول تأطيره وتفعيله ليأخذ موقعه الجدي في التفاعلات السياسية، لكن قديم الأحزاب لم يندثر وجديدها لم يولد . كل المحاولات القائمة هي إيجاد تزاوج بين مؤسسات حزبية أغلقت على نفسها أمام رياح التغيير وضروراته، ونخب سياسية مستقلة عاجزة عن تكوين تيارات منظمة جديدة .
عملية الانتقال من الصالونات السياسية التي تكاثرت في العقدين الأخيرين، إلى التيار السياسي الشعبي ليست سهلة . كلما جرت محاولة على هذا الصعيد تعترضها عقبات كثيرة . المجتمع السياسي اللبناني كله موزع على خارطة جغرافية وديمغرافية تشبه دوائر النفوذ الطائفي والمناطقي . حجم الوطأة السياسية لحضور القوى المركزية في الطوائف، القامع لكل أشكال الانفكاك والتمايز هائلة . لم يمنع ذلك بعض الناشطين من المحاولة . لكن التوفيق بين تنظيم فاعلية الحراك الاجتماعي والسياسي المستقل وبين مؤسسات الأحزاب فيه مغامرة بدت غير محسوبة . تدافع الأحزاب عن مرجعيتها وسلطاتها حتى لو كانت تشعر بالتراجع والوهن وعدم الفاعلية على المستوى الوطني . انخرطت الأحزاب في لعبة المنافسة البلدية وسجلت في تقاريرها ما اعتبرته إنجازات هنا أو هناك . ما يشغل الأحزاب هو حصتها من التمثيل لا دورها في العمل الوطني والديمقراطي، ولا طبعاً هيبتها المسموعة على مستوى الدولة . لم تعد الدولة تأبه لأي موقف ولأية مطالبة إصلاحية . الشارع والعمل الجماهيري لم يعد مسرح هذه الأحزاب، بل هو في قبضة أحزاب الطوائف . في معظم الأحوال الحراك السياسي هو حراك ضباط بلا جنود . هناك جرأة وشجاعة أحياناً، ولكن ليس هناك الحكمة الكافية لإدارة هذا الحجم من التناقضات الشخصانية والسياسية في آن . يقتل المشاركون النصوص والوثائق والأوراق والبرامج قتلاً في المنافسة، ويعطون جهوداً أقل للعمل المباشر والتجربة . الإسقاطات الذاتية لا تستوعب كامل المشهد . الرغبة أقوى من الإمكانات . سحر الكلمة أقوى من الحاجة إلى الارادة . المركزية السياسية أقوى من الحراك الدائر في المناطق والقطاعات . التوحيد السياسي يحتاج إلى قيادة مركزية، لكن لا يمكن أن تكون منفصلة عن القوى الاجتماعية . أن تلتقي نخب من المهمشين في المناطق هي خطوة مهمة، لكن أن تتحول إلى فعل جماعي منسجم منسق هو الأساس .
منذ تشكيل ldquo;حكومة الوحدة الوطنيةrdquo; هناك قوى سياسية في بطالة . الخطة الدفاعية وسلاح المقاومة إلى هيئة الحوار، والعلاقات اللبنانية السورية أخذت طريقها عبر المؤسسات . انفتاح الفريقين على معالجة ما قيل إنه عدم توازن في تلك الاتفاقات يؤكد أنها ليست قضية خلافية . يريد البعض أن يفتعل المشكلات، فيطرح مسألة المجلس الأعلى اللبناني السوري على بساط البحث، ويدعو إلى مراجعة محكمة العدل الدولية . بالونات سياسية جديدة تستثمر على مشاعر اللبنانيين من دون جدّية .
في مكان آخر يعاد طرح موضوع السلاح مع علم هذه الجهات باستحالة معالجته بوسائل الإعلام والشارع . يذهب البعض إلى إحياء شعار حياد لبنان، في الوقت الذي يشتبك فيه لبنان سياسياً مع ldquo;إسرائيلrdquo; حول بعض أراضيه المحتلة، والخروق الجوية اليومية، ومطامع ldquo;إسرائيلrdquo; في الثروة النفطية المتوقعة على الشاطئ اللبناني . هذا الفريق من اللبنانيين يصر على التمايز، وعلى إقحام جمهوره في النزاعات الإقليمية عكس ما يدّعي . يتصرف وكأنه يستطيع أن يقرر مصير لبنان، في حين يتحول إلى أضعف فريق في المعادلة اللبنانية . يشتبك سياسياً مع الجماعات الأخرى، وهو يعرف أن القضايا الخلافية الكبرى بما فيها موقع لبنان في الصراع العربي ldquo;الإسرائيليrdquo; لا يقررها حتى اللبنانيون كلهم . المشكلة التي يرتكبها هذا الفريق أنه يساهم في تأجيل معالجة قضايا المواطنين وتطوير المؤسسات وبناء الدولة . الهدوء السياسي الذي خيّم على البلد تقطعه هذه الاعتراضات بدل أن تكون مناسبة لتطوير الإدارة والاقتصاد وحل الأزمات الاجتماعية .
يتصرف القادة السياسيون بمعزل عن اهتمامات جمهورهم الحياتية، لأنهم يتلقون دعماً خارجياً، وتقوم أحزابهم بالاعتياش على هذا الدعم . نائب وزير الخارجية الأمريكية كشف عن إنفاق خمسمائة مليون دولار في السنوت الأربع الماضية لتشويه صورة المقاومة . لا نتحدث عن أشكال تمويل أخرى ومنها إنفاق مليار دولار على الانتخابات . هناك ظاهرة لبنانية غير مسبوقة في العالم . السياسة اللبنانية تعيش على دعم الخارج وتستقل عن هموم الناس . يقال إن ظاهرة التمويل تراجعت مع تراجع حدّة الأزمة . ربما لهذا السبب انخفض منسوب التصعيد السياسي، وانخفضت حدّة التجييش . هل يمكن للبنان أن يستثمر لحظة الاستقرار؟