نحو جامعة أو اتحاد «المصالح» العربية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
عبدالوهاب بدرخان
خمسة زعماء عرب، في جلسات مغلقة، في قمة مصغرة، في طرابلس - ليبيا، سعياً الى مشروع جديد لتطوير العمل العربي المشترك. المهمة عاجلة ولو متأخرة، والهدف المنشود رهن وضوح الرؤية والأهداف، وكذلك المصالح.
أياً تكن الصيغة التي يتفقون عليها، نقض "الجامعة"، أو استبدال "الاتحاد" بها، ستواجه السؤال: ما الذي سيتغيّر؟ لو كان لدينا عرب جدد لأصبح إيجاد جديد للعمل واجباً ومبرراً. أما تجديد الإطار لتسييره بالوسائل والعقليات ذاتها فسيكون مجرد تغيير للديكور لا أكثر.
ومع ذلك، فالتجديد مطلوب. لكن أفضل الأطر والآليات، وأكثرها عصرية، لا تستطيع أن تجترح العجائب والمعجزات المتوخاة، ما لم تتغير النفوس والعقول. والواقع اننا لم نسمع عن مراجعة، أو نقد ذاتي، أو إعادة نظر جماعية، وانها توصلت الى توصيات أو مشاريع قرارات ليصار الى تحويلها مبادرة للتغيير على نحو طبيعي مألوف.
طبعاً، هناك نقاشات حصلت داخل الجامعة، وشاركت فيها الحكومات عبر ممثلين رسميين، كما ساهمت فيها آراء من قطاعات شتى، وكالعادة، كانت أفضل الأفكار هي تلك التي يستحسن عدم عرضها على الملوك والرؤساء، لمجرد انها لن تلقى "الإجماع" ولأنها ستتناقض على الأرجح مع طرائق مباشرة الحكم محلياً وداخلياً. ذاك ان هواجس السيادة وعدم التدخل وعدم تبادل النقد واحترام حقوق الحكومات في تفسير حقوق الإنسان والتصرف ازاءها، موصولة كلها بأكثر أعصاب الدول حساسية وانتفاضاً.
في العقدين الأخيرين، تدخلت العلاقات العربية - العربية في أنماط مستحدثة إن دلت الى شيء فإلى استحسان التدخلات غير العربية والتكيف معها واستدراج عونها في المجالات كافة. ومع ذلك، لم تستطع هذه الأنماط أن تلغي كلياً أو جزئياً بديهية التفاعل مع الإقليم والجوار. فإذا نظرنا بعيداً نجد أن بريطانيا لا تستغني عن ارتباطها بأوروبا مهما تعمقت علاقتها بالولايات المتحدة. وإذا نظرنا أقرب نجد أن الدورة التاريخية الكاملة التي دارتها تركيا في محافل الغرب ما لبثت أن عادت بها الى الإقليم. وفي المقابل لم تجد إيران الثورة، بعد مراحل التقلبات، سوى صيغة تحاول أن توفق فيها بين طموحات قديمة وأخرى مستجدة لإنتاج شاه بصفة ولي فقيه، وبالتالي فإنها تعرض نفوذها الإقليمي - وبعضه الأكبر عربي - للبيع في أسواق الاستراتيجية الغربية.
هذا التغيير في الإقليم، معطوفاً على إسقاط التسوية السلمية وإفشالها إسرائيلياً وأميركياً، وعلى تخريب العراق غزواً واحتلالاً ونزاعات أهلية، ترك العرب تحت رحمة القوى القريبة والبعيدة واحتمالات مرجّحة لتفاهمها أو تواطؤها على حسابهم. وسواء أحب البعض أن يعزو ذلك الى "مؤامرة" أو ما يعادلها، لهذا لا يعفي العرب من مسؤوليتهم تجاه ما يوجبه عليهم وجودهم في هذا الإقليم. ذاك أن اندفاعهم الى تدبير أوضاعهم الخاصة، بالالتجاء الى نوادي النفوذ الدولي المعروفة والمتاحة، قد يكون أعماهم عن حقيقة أن "الرابطة" العربية لها وظيفة في أي سيناريو يقدمون عليه. قد يجري تعطيلها أو إضعافها، أو التصرف كأنها غير موجودة، لكن يصعب الغاؤها. وهي ليست وهماً أيديولوجياً بل معطى واقعياً يجب التعامل معه.
قد يبدو "النظام العربي الرسمي" اليوم كأنه مفقود يُراد استرجاعه، أو كميات فاقدة الصلاحية يلزم إنعاشها، أو حتى كائن غير موجود ينبغي اختراعه. ولكن لا، يفترض التفكير بطريقة مختلفة وبذهنية يصعب القول انها متوافرة. فالبناء على التجربة السابقة ممكن في حال واحدة فقط: ان تكون نجحت وأن يكون نجاحها بنّياً. أما السعي الى تجربة جديدة بالمكوّنات نفسها، فلا بد من أن يكون إعادة عجن للعجين السابق. لذلك، فالحاجة ملحّة الى أفكار خلاقة وجريئة.
من ذلك مثلاً، أن يصبح الاقتصاد - منفلاً ومنزهاً عن السياسة - هو الهدف الأول والعاجل، بكل ما يعنيه على صعيد الثروات وقوى العمل، وبأي صيغة تعاوناً كانت أم تكاملاً أم تكافلاً. والسوق المشتركة حان خروجها من حيز التنظير والثرثرات الى الواقع المعاش. من ذلك أيضاً، استطراداً واستكمالاً، أن يتم تجاوز حاجز التردد في التعاطي مع التنمية بأنها يمكن أن تستوعب الحداثة وتعممها بدل استيرادها وعدم هضمها والاكتفاء بها لمجرد التمظهر. ومن ذلك أخيراً، لا آخراً، الكف عن استعداء الإنسان - المواطن، وعن التقليل من شأن مساهماته، فهو لم يُعطَ الفرص المستحقة له، وهو الذي سيكون صاحب الدور الحاسم في نهوض الاقتصادات وإنجاح التنمية.
فلتجلس الأنظمة والحكومات، إذاً، في أي إطار يريحها، لكن فلتعمل وفقاً للمفاهيم والأساليب التي طالما خشيتها وكافحتها ولم تحصد سوى هذا الوضع الذي يشكو منه الجميع، من دون أن يعترف بمسؤوليته وبأنه من أسباب هذه الشكوى وعللها. ومن شأن هذه الأنظمة والحكومات، وهي تبدي إقبالاً على تجديد تجربتها في العمل العربي المشترك، ان تعرف وتعترف بأنها تسعى الى انطلاقة جديدة وقد فقدت ورقة التوت التي كانت تستر عوراتها، وكان اسمها "التضامن العربي". فهذا التضامن نعي ودفن ولن يعود، والأفضل ألا يعود الاستئناف وظيفة الأوهام ذاتها. وطالما ان الأولوية - الواقعية - باتت للمصالح، لا للتضامن، وطالما ان الجميع لا يزال راغباً في البقاء في كنف "الرابطة العربية" سواء: كانت "جامعة" أو "اتحاداً"، فإن التغيير المنشود يكون بجعل هذه "الرابطة" بيئة حاضنة للمصالح أو لا يكون. ولعل المهمة الأولى تحديد هذه المصالح وسبل تحقيقها.
على رغم الانعكاسات السلبية للصراع العربي - الإسرائيلي، فإنها لا تكفي كعذر أو ذريعة لعدم تفعيل العمل العربي المشترك، فالمعتقد كان دائماً الإرادة والالتزام، ولا شيء يضمن توافرهما في أي صيغة مجددة. ويجب ألا ننسى أن الشرق الأوسط كان موعوداً بسلام ثم خذل، وإذا تعذر على العرب الردّ بالقوة فليرجوا على الأقل بعمل مشترك معني بمستقبلهم أمة ودولاً وشعوباً... ومصالح.