الخفّة السياسية في لبنان
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
وليد شقير
يتعامل بعض الوسط السياسي اللبناني مع الأحداث الكثيرة التي يشهدها لبنان بخفّة ما بعدها خفّة، فيخلط الغث بالسمين، ويسخّف القضايا الكبرى ويصغّرها ويقزّمها، ويضخّم القضايا الصغرى ويجعل من "الحبة قبة" كما يقول المثل الشعبي ويغوص في سجالات لا طائل منها، فيصبح معها هذا خبيراً في الأمن وذاك فهيماً في النفط والآخر ضليعاً في العلاقات الدولية، في وقت لا تشي هذه المظاهر إلا بأن وراء الأكمة ما وراءها من أهداف شخصية أو فئوية أو مصالح أو مناورة في التعاطي مع ملف لاستهداف ملف آخر لا علاقة له بالأول.
تنطبق الخفة في التعامل على الكثير من العناوين، فتُنسبُ اعترافات لموقوف مشتبه بتعامله مع العدو الإسرائيلي من أجل استهداف المحكمة الدولية والإنقاص من رصيدها ومن النتائج التي يكون التحقيق الدولي قد توصل إليها في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، بحيث يبدو الأمر قابلاً للتأويلات من كل صوب وجهة. ويفعل من يقوم بالاختلاقات ذلك من دون أن يتنبه الى أن هذا يؤدي الى التعمية على الأعمال الفعلية التي يمكن أن يكون قام بها هذا المشتبه به في إفادة إسرائيل لاختراق الأمن اللبناني لاستهداف البلد والمقاومة فيه.
وهكذا أيضاً يعلو الصراخ حول الثروة البترولية اللبنانية (المفترضة) وتكبر الاتهامات من هذا والردود من ذاك، ويوضع بعضهم في خانة العمل لمصلحة إسرائيل، بعد أن تلصق به صفة التأخير في استخراج النفط والغاز، في استسهال لا مثيل له لاستخدام موضوع تجنح الدول المعنية به الى البحث فيه بخفر وتكتم، نظراً الى أنه يمس الأمن القومي والاقتصادي فيها ومصالحها البعيدة المدى. ثم يخفت الصوت وتذهب الاتهامات أدراج الرياح بعد أن يختلط التقني بالسياسي وبالشعارات الرنانة، ليصبح النقاش حول صندوق مالي، وحول أيّ الطوائف يكون لها النفوذ عليه بينما الصيد الثمين ما زال بعيد المنال.
وينزلق كبار القوم الى هلوسات صغارهم، والى ردود الفعل الغرائزية والحسابات الطائفية والمصالح الضيقة ويملأ ضجيج المزايدات الأثير في مناقشة موضوع يدّعي الجميع وجود إجماع عليه (كما على غيره من مواضيع هي خلافية بامتياز)، مثل موضوع الحقوق المدنية للفلسطينيين المقيمين في لبنان، لتخفت الحملات بعدها ويقبل من يزعم أبوة شعار حقوق الإنسان بأن الأمر يحتاج الى الحد الأدنى من النقاش الهادئ بعيداً من الإثارة... نظراً الى عمق وجدية الملف كحاجة لبنانية وإقليمية وأمنية واقتصادية.
ويتعاطى الوسط السياسي، وبعض الوسط الرسمي مع موضوع المواجهات بين قوات "يونيفيل" في جنوب لبنان وبين الأهالي على أنه موضوع تقني يفقد الحوادث اليومية المتراكمة التي تحصل أبعادها السياسية والأمنية والعسكرية، بحيث تغيب الشفافية والصدقية عن علاقة لبنان مع القوات الدولية، فيؤثر ذلك سلباً على مواقف 13 دولة عضو في الأمم المتحدة، لديها وحدات على الأرض اللبنانية يفترض أن يساهم وجودها في حماية لبنان من أي مغامرة إسرائيلية جديدة ضد أراضيه، هذا في حين تستغل إسرائيل الأمر للتغطية على فقدانها الصدقية نتيجة الحملة الدولية عليها بسبب تعرضها لأسطول الحرية قبل شهر، وبسبب استمرار حصارها قطاع غزة ومواصلتها سياسة تهويد القدس ومضيّها في بناء المستوطنات في المدينة وحولها... ويتناسى بعض السياسيين أن حوادث من هذا النوع تؤثر على مناقشات تقرير مجلس الامن حول تطبيق القرار 1701 والتجديد لـ "يونيفيل" في آخر الشهر المقبل.
قد يتفهم المرء أن الساسة اللبنانيين أو بعضهم يشعر بالملل والضياع لأن الكثير من الأمور الكبيرة في البلد الصغير، بات حلها مرتبطاً بالملف النووي الإيراني، ونتائج المواجهة بين طهران والدول الكبرى وبما ستؤول إليه محاولات إدارة باراك أوباما لاستئناف مفاوضات السلام، وارتباط كل ذلك بالانتخابات النصفية في الكونغرس الأميركي. وأن ما يمكن أن يصدر في القرار الظني لمدعي عام المحكمة الدولية دانيال بلمار ما زال مجهول المضمون والتوقيت، وسط الحديث عن مواعيد تتأجل مرة بعد مرة... إلا أن كل ذلك لا يبرر هذا القدر من الخفة التي باتت تستدعي من الكثيرين من السياسيين اللبنانيين أن ينظروا الى أنفسهم في المرآة قبل أن يدلوا بأي تصريح، ليكتشفوا أن الاهتمام بقضايا الناس ومعيشتهم، أي بالقضايا "الصغرى"، أفضل من تصغير القضايا الكبرى.